محمد السعدي من الانغلاق إلى التنوير: قصة تحوّل لا يفهمها الإعلام المأجور
محمد السعدي من الانغلاق إلى التنوير: قصة تحوّل لا يفهمها الإعلام المأجور

كتب د/ اكرم سالم
في زمن يضجّ بالصخب الإعلامي والزيف المُمنهج، تُختصر قصص الناس ومصائرهم في عناوين مضللة، ويتحوّل التغيير الصادق إلى تهمة، والتوبة الفكرية إلى سلاح يُشهر في وجه أصحابها. هكذا تعامل بعض الإعلاميين – الذين لا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم – مع سيرة رجل اختار أن يخرج من الظلمات إلى النور، من الانغلاق إلى التنوير، من الغلوّ إلى الفهم والتسامح.
نعم، كان عضواً في تنظيم القاعدة. هذه ليست جريمة بحد ذاتها إذا قورنت بالمسار الذي تلاها.
الجريمة الحقيقية أن يبقى الإنسان في الضلال رغم وضوح الحقيقة، أما أن يعترف بخطأه، ويواجه نفسه، ويتمرد على محيطه، فهذه بطولة أخلاقية لا يملك الإعلام المأجور أن يفهمها.
لم يكن خروجه من التنظيم انشقاقاً شخصياً فحسب، بل كان قطيعة فكرية واعية، ووقفة ضمير مع الناس الذين ظلمهم التطرف باسم الدين.
من وسط بيئة كانت ترى كل مخالف كافراً وكل مخالف للمنهج هدفاً، تجرّأ وقال: “لا”. وهذا وحده يستحق الاحترام لا الهجوم.
لقد غادر التنظيم بعدما رأى ظلمهم للناس، وافتراءهم باسم الدين، واستعلاءهم على الآخرين بتأويلات متطرفة لا أصل لها في روح الإسلام. لم يخرج مطروداً، بل اختار أن يخرج، لم يُجبر، بل قرر بكامل وعيه. هذه ليست خيانة، بل استقامة بعد انحراف، وشجاعة بعد تردد.
اختار طريق العلم بديلاً عن طريق السلاح، وواصل دراساته العليا في الخارج، منكباً على البحث والفكر والنقد، دارساً للفكر الإسلامي وتاريخه، باحثاً عن الجذور التي تنبت منها بذور التطرف، ساعياً نحو بناء وعي جديد يتصالح مع الحياة والناس والاختلاف.
ولم يكن ذلك مجرد محاولة شكلية للتبرؤ من الماضي، بل كان اجتهاداً حقيقياً تُوِّج بإنجاز أكاديمي مشرّف، فقد حصل على درجة الامتياز في مرحلة الماجستير في تخصص الاقتصاد والتمويل المصرفي من جامعة مرموقة في تركيا، وهو إنجاز يعكس عقلاً جاداً وهمة عالية، وقدرة على التطوير الذاتي والنضج الفكري.
هذا النجاح الأكاديمي ليس مجرد شهادة، بل هو تتويج لمسار صعب وشجاع في رحلة التصالح مع الذات والعالم.
هل هذا ما يُدان عليه الإنسان؟ أليس هذا هو التحوّل الذي تتغنّى به الأمم، حين تنتشل أبناءها من أخطاء الماضي نحو أفق أفضل؟ لماذا لا نحتفي به كمثال للشجاعة، بدلاً من التشهير به وكأنه لم يخرج من طريق النار إلا ليدخل في نار الإعلام؟
من المؤسف أن تتحول بعض المنابر الإعلامية إلى أدوات تسقيط لا أدوات نقد، تستثمر في الماضي لتخويف الحاضر، وتبحث في الأخطاء القديمة لتغتال التوبة والتغيير. هؤلاء لا يعنيهم الواقع، ولا يهمهم المستقبل، بل يريدون استدامة البغضاء والفرقة والعداوات.
إن الهجوم الذي يشنّه البعض اليوم ليس نابعاً من حرص على الأمن أو الحقيقة، بل من ضيق صدر تجاه كل صوت مستقل، كل مشروع تغييري، كل شخصية اختارت ألا تكون تابعاً لهذا أو ذاك. يريدونك أن تبقى أسير خطأك، لأن خروجك منه يفضح عجزهم عن التغيير.
من الأَولى بالتصفيق: من بقي في التنظيم ولم يتزحزح عن غلوّه؟ أم من خرج بشجاعة، وغامر بمكانته، وربما بسلامته، ليقف مع الإنسان، مع الفكرة، مع الوطن؟
أليس من الأولى أن يُحتفى بهذه التجربة كبذرة مشروع وطني، يعتمد على الاعتراف والنقد والتجديد، بدلاً من استغلالها كورقة تشهير رخيصة؟
محمد السعدي لا يمثل نفسه فقط، بل هو امتداد لمسيرة وطنية أصيلة، خطّها والده العميد علي السعدي، رحمه الله، الذي عُرف بغيرته على الوطن، ووقوفه الشجاع ضد الاستعلاء والاستكبار، وانتصاره للعدالة والكرامة الوطنية.
وقد تُوّج هذا النضال بأغلى الأثمان، حين قدّم نجله الدكتور جياب السعدي شهيداً على درب الحرية ورفع الظلم والعبودية. ومن هذه التضحيات الجليلة، وُلد إيمان محمد بالسير على ذات الطريق… طريق الوطن لا طريق الجماعة.
هذا الرجل ليس معصوماً من الخطأ، لكنه تجرأ على مواجهة خطأه. لم يكن نبياً، لكنه إنسان… والإنسان يُعرف بمساره، ويُقاس بتجربته الكاملة، لا بلحظة واحدة منها.
وإذا كان الإعلام لا يفهم ذلك، فليعد إلى أبجديات الأخلاق.