البحث العلمي، من النشر المجاني إلى التسويق
مسعود عمشوش
اليوم، في عصر العولمة واشتداد التنافس الاقتصادي، أصبحت معظم الدول تتبنى نموذج الاقتصاد القائم على الابتكار ونقل المعرفة وإنتاجها بواسطة البحث العلمي الجاد، الذي أصبح حقاً رأسمالا وسلعة قابلة للتسويق؛ للبيع والشراء. فاليوم لم يعد التسويق قاصراً على المنتجات المادية والخدمات فقط، بل أنه بات يشمل المعرفة والأفكار، وأصبح على الجامعات والمراكز تسويق أنشطتها البحثية وخدماتها ليس فقط للطلاب، بل كذلك للمؤسسات الاقتصادية الإنتاجية والمجتمع بشكل عام. وأصبح لدى الأستاذ الجامعي والباحث الماهر سلع عليهما تسويقها بجدارة وفاعلية.
ولنستطيع تسويق ما ننتجه من معرفة وبحث علمي، داخليا وعالميا، علينا أولا تجاوز الظاهرة السائدة في الجامعات العربية بشكل خاص، والتي تكمن في ربط الحصول على الألقاب الأكاديمية بإنجاز عدد البحوث العلمية وإلزام المدرسين بنشرها في مجلات (علمية محكمة)، لا يمت معظمها للعلم الجاد بأي صلة، بل أنها في الغالب تتخذ من نشر البحوث وتعميمها وسيلة للكسب. وليس صحيحا أبدا أن حصول هذه المجلة أو تلك على رقم دولي، أو صفة زد أو أكس دليلا على جودة ما تنشره وتعممه من بحوث علمية.
وبالنسبة لمعظم المؤسسات البحثية والأكاديمية الغربية فهي قد توقفت منذ نهاية القرن الماضي عن تعميم البحوث العلمية من خلال النشر المجاني لما تتضمنه مجلاتها العلمية. وقبل ذلك، وعلى مدى بضعة عقود من الزمن، كانت الصين واليابان وألمانيا قد استفادت كثيرا من المعرفة المنتجة في الولايات المتحدة وبريطانيا أكثر من الأمريكيين والبريطانيين أنفسهم.
ومنذ مطلع هذه الألفية تشهد الجامعات على المستوى العالمي تحولات جذرية فرضتها عليها العولمة وسيادة اقتصاد السوق وسياسة التمويل الذاتي التي تلزمها بتجاوز التركيز على مهمة تأهيل الطلبة، الاهتمام أكثر بالمشاركة المباشرة في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، في بلدانها.
ولهذا نلاحظ أن المؤسسات الجامعية والبحثية الغربية قد حدّت اليوم كثيرا من النشر المجاني للبحوث، وذلك بسبب ربط تمويل المؤسسات الاقتصادية الخاصة والعامة للبحث العلمي باحتكار نتائج ذلك البحث العلمي، وعدم إتاحته مجانا لأي جهة أخرى. لقد أصبح البحث العلمي حقا سلعة يتم تمويل إنتاجها وبعد ذلك احتكارها وتسويقها.
وللنهوض بمستوى البحث العلمي في بلادنا علينا خلق آليات مراقبه صارمة وفعّالة لكيفية قيام منتسبي جامعاتنا بمهامهم البحثية، والتعاون الحقيقي بين المؤسسات الجامعية والبحثية والمؤسسات الإنتاجية في القطاعين العام والخاص من أجل وضع أسس شراكة حقيقية ومثمرة. فاليوم لم يعد في إمكان الجامعة أن تظل مجرد مكان لإنتاج المعارف النظرية ونقلها، بل ينبغي إسهامها في مختلف مشاريع التنمية.
ولكي يتم تفعيل دور جامعاتنا في هذا المجال عليها أن تعيد النظر في كيفية تعاملها مع منتسبيها ونشر الوعي بينهم بأهمية التسويق الذاتي للباحث العلمي وأبحاثه وإنجازاته العلمية، والتوسع في إنشاء المراكز المتخصصة في البحث العلمي ونقل المعرفة والتكنولوجيا، واستحداث حاضنات للمشاريع الإبداعية، ومجمع تكنولوجي، وكذلك إنشاء إدارة لتسويق البحث العلمي ضمن هيكلها، وخلق هوية رقمية للباحثين، وقواعد بيانات دقيقة عن الأكاديميين والباحثين وتعميمها على المؤسسات الإنتاجية، والترويج لمنتوجها العلمي من خلال تنظيم المعارض الأكاديمية واللقاءات المستمرة بين الأكاديميين والمستفيدين من القطاعين العام
والخاص.