كيف استثمر آل البيت في اليمن سنّةً وشيعةً في مأساة فلسطين؟

إشكالية معقدة تطرحها شعارات وصواريخ جماعة الحوثي، المعروفة أيضاً بـ"أنصار الله". إذ إن هجماتها ضد السفن التجارية العابرة للبحر الأحمر ومضيق باب المندب، تحت شعار مؤازرة الفلسطينيين، يمكن تلمّس آثاره السلبية على اقتصادات الدول العربية/ الإسلامية وعلى خياراتها السياسية، من خلال تضييق مساحة قرارها المستقل، خاصة بعد استحضار صواريخ الحوثي للمزيد من الوجود العسكري الغربي على مقربة من هذه الدول.

وتبقى الشعارات الرنّانة للحوثيين، مثل "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، النصر للإسلام، اللعنة على اليهود"، أكثر إشكاليةً في التفنيد، وقد يكون من المفيد تسليط الضوء على السردية الحوثية فهي ليست مستوردةً بالكامل، بل لها جذورها عند أسلاف الحوثيين، أئمة المملكة المتوكلية اليمنية.

فبهدف عزل اليمن عن الإصلاح والتغيير تحت تهمة التغريب، تبنّى الأئمة الزيديون شعار العداء للغرب حتى ذاع صيتهم به. لكن ما أن ثار اليمنيون، معلنين تأسيس الجمهورية اليمنية في أيلول/ سبتمبر 1962، حتى سارع الإمام محمد البدر، إلى مدّ جسور التواصل مع إسرائيل للحصول على المال والسلاح، بعد فراره إلى شمال البلاد، محتمياً بجيش من القبائل الموالية له. وكنتيجة للحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين، وطول أمد القتال بينهما، مع خوف دائم من انقطاع الدعم البرّي القادم من السعودية، بحث الملكيون عن مورد جديد للإمدادات وزيادتها. إذ لم يتمكن سلاح الجو الملكي البريطاني حينها من توفير الإمدادات اللازمة، نتيجة اعتبارات سياسية واقتصادية، منها اشتراط لجنة الخارجية التابعة لمجلس الوزراء البريطاني في كانون الثاني/ يناير 1963، أن تكون المساعدة البريطانية للملكيين غير مباشرة، نظراً إلى إعلان بريطانيا عدم مشاركتها في هذه الحرب.

بهدف عزل اليمن عن الإصلاح والتغيير تحت تهمة التغريب، تبنّى الأئمة الزيديون شعار العداء للغرب حتى ذاع صيتهم به. لكن ما أن ثار اليمنيون، معلنين تأسيس الجمهورية اليمنية في أيلول/ سبتمبر 1962، حتى سارع الإمام محمد البدر، إلى مدّ جسور التواصل مع إسرائيل للحصول على المال والسلاح، بعد فراره إلى شمال البلاد، محتمياً بجيش من القبائل الموالية له

وأمام هذا الوضع، سعت المخابرات البريطانية (M16)، إلى تأمين دعم إسرائيلي لحلفائها الملكيين، إذ أورد أورين كيسلر في مجلة "بوليتكو" أنه "في ليلة 26 أيار/ مايو 1964، دعا الإمام بدر إلى جلسة إستراتيجية لزعماء القبائل الذين كانوا يدعمون النظام الملكي، ومنهم الشيخ 'حسين الحوثي، شيخ قبيلة الحوثي' التي تقود اليوم القتال ضد الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، لانتظار الطائرات الإسرائيلية. وقريباً من منتصف الليل، سمع كبار الشخصيات المجتمعة صوت طائرة إسرائيلية في السماء ورأوا 14 مظلةً تسقط". لاحقاً، كشف المؤرخ في معهد الدراسات السياسية والدولية في جامعة ليدز، الدكتور كلايف جونز، عن مدى هذا التورط في كتابه "بريطانيا والحرب الأهلية اليمنية 1962-1965".

ووفقاً للباحث في صحيفة "هآرتس"، يوٱف ستيرن، شملت المشاركة الإسرائيلية إسقاط معدات قتالية للمقاتلين الملكيين في الجبال. وبرغم الإشارة في مقاله إلى فشل المساعدات الإسرائيلية، نظراً إلى عدم تمكّن الملكيين من الاستحواذ على السلطة مجدداً، إلا أن إسرائيل برأيه كان لديها اهتمام جزئي بتمكين الملكيين من السلطة، واهتمامها الأكبر كان بـ"محاصرة القوات العسكرية المصرية هناك، وإضعاف الجبهة المصرية مع إسرائيل"، مشيراً إلى توظيف الموساد حينها للعديد من العملاء العاملين في اليمن، و"أحد هؤلاء العملاء هو باروخ مزراحي، الذي تم أسره عام 1967 في اليمن، وسُجن في مصر وأُطلق سراحه بعد حرب يوم الغفران في صفقة أسرى". ويوضح ذلك رئيس الموساد السابق، شبتاي شافيت، لصحيفة "هآرتس" في شباط/ فبراير 2000، بقوله: "لقد فعلنا ذلك حتى نتمكن من القتال ضد أسوأ أعدائنا".

"بساط الريح"

ضمن جهودها المستمرة لاستقدام الشتات اليهودي إلى إسرائيل، نظّمت تل أبيب أكبر عملية تهجير شهدها التاريخ المعاصر ليهود اليمن، والتي عُرفت باسم عملية "البساط السحري" أو "بساط الريح". بموجبها هجّر الإمام أحمد في كانون الأول/ ديسمبر 1948، نحو 65 ألف يهودي إلى إسرائيل بواسطة الوكالات اليهودية في جنوب اليمن، مستولياً بعدها على أموالهم وممتلكاتهم. بجواره، لم ينثنِ الإمام يحيى في ثلاثينيات القرن الماضي، عن دعم وتمكين إسرائيل كدولة حاضنة لليهود، مع دعمه لسرديتها الدينية، برغم زيارة مفتي القدس أمين الحسيني إلى اليمن في العام 1933، حسب جريدة الجامعة الإسلامية، للضغط على الإمام يحيى بغية منع هجرة يهود اليمن إلى فلسطين، بالإضافة إلى محافظة الإمام يحيى على علاقة جيدة مع البريطانيين، إذ تشكل هذه العلاقة حافزاً قوياً لمزيد من المهاجرين. وبناءً على ذلك، كانت السلطة البريطانية تستجيب لطلبات الإمام، إلى حد إغلاقها صحيفة "صوت اليمن"، التي كانت تُبرز عيوب الحكم الإمامي ومظالمه. حينها اختصر المؤرخ والصحافي سيف علي مقبل، علاقة الطرفين في كتابه "تاريخ الصحافة في اليمن"، بقوله: "بذلك يتجلى تحالف النظام الاستعماري والإمامي في هذا الموقف".

استمر هذا التقارب مع إسرائيل وبريطانيا مع تولّي الحكم من قبل أبناء الإمام يحيى، فوفقاً لما نقلته صحيفة "المحرر" اللبنانية بتاريخ 1 كانون الأول/ ديسمبر 1965، عن مجلة "روما" الإيطالية، التي أجرى مراسلها مقابلةً صحافيةً مع الإمام المخلوع في معسكر المنصورة في عدن، أعلن الإمام البدر تطبيع العلاقات بين اليمن وإسرائيل قائلاً: "أنا مدين لإسرائيل"، مع تعهده آنذاك بمنحها الكثير من الامتيازات.

ومن خلال هذا الاستعراض لعلاقة الأئمة الزيديين، "المنتسبين إلى آل البيت"، مع إسرائيل، يبدو شعار الحركة الحوثية "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، النصر للإسلام، اللعنة على اليهود"، شعاراً أقرب إلى التملق للراعي الإيراني الجديد لهذه الجماعة. إذ إن "بساط الريح" التي بدأت في ثلاثينيات القرن الماضي لم تتوقف تماماً عام 1952، فقد استكملت إسرائيل عملياتها التي بدأتها مع الإمام يحيى، باستقدام 19 يهودياً من بلدة "ريدة" اليمنية، في آذار/ مارس 2016، أي بعد ثلاثة أعوام من انقلاب الحوثي، تقدّمهم الحاخام سلمان دهاري، الذي سلّم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي استقبلهم بنفسه، نسخةً قديمةً من التوراة يُقدَّر عمرها بأكثر من ستمئة سنة.

فلسطين غطاء لأزمة داخلية

منذ انقلابهم على الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، عمل الحوثيون على إطلاق خطاب ديني "هاشمي"، كأساس جديد تستند إليه الجماعة في ظل غياب مشروعيتها السياسية. ولكسب جمهور لهذا الخطاب، تم إدراجه ضمن مناهج التعليم المدرسي والجامعي، وكذلك ضمن المحاضرات الإلزامية لموظفي الدولة، وضمن المناسبات الدينية السنوية الخاصة بالجماعة التي يجبرون المواطنين على المشاركة فيها. إلا أن ذلك لم يمنع بروز حالات السخط الشعبي تجاه الحوثيين، ومنها الاحتفالات الأخيرة بعيد الثورة في 26 أيلول/ سبتمبر الماضي، فحينها تحسس الحوثيون بنادقهم التي "تستثار أمام كل تجمع في الساحات".

برغم مزايدة الحوثيين في القضية الفلسطينية منذ عقود، إلا أن ما يميّز "نصرة" فلسطين هذه المرة، أنها تعكس، ولأول مرة، أزمةً داخليةً أيضاً، نظراً إلى فشلهم المستمر في دفع الرواتب، مع تراجع شعبيتهم في الشارع اليمني، وتزايد حالات السخط والإضراب في مناطق سيطرتهم. وفي ظل هذه الظروف، وجد الحوثيون في الحرب لإلهاء الرأي العام، ونجحوا إلى حد ما في استثمار الغضب اليمني تجاه إسرائيل، كما استغلوا حالة غليان الشارع العربي تجاه العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة، لتجميل صورتهم لدى هذا الشارع.

ويبدو العدوان الإسرائيلي على غزة، حالة مثالية للحوثيين، تسهّل عليهم تأكيد مواقفهم السياسية والعقائدية بمحاربتهم "المزعومة" لأمريكا وإسرائيل، وبأنها تدفع ما تدفعه نتيجة نُصرتِها لفلسطين. وعليه، قد تتمكن الجماعة المتمردة من حشد تعبئة داخلية غير مسبوقة لصالحها، تجذب خلالها وتجنّد المزيد من المقاتلين والمؤيدين، مما يعزز قدرتها العسكرية وسيطرتها على جزء كبير من اليمن، زيادةً على إدارة مجهود حربي وعسكري للردّ على الهجمات الأمريكية في مناطق مثل حجة والحديدة وصنعاء وتعز.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

ألن تنضمّ/ ي إلى من يشبهونك؟

يبدو العدوان الإسرائيلي على غزة، حالة مثالية للحوثيين، تسهّل عليهم تأكيد مواقفهم السياسية والعقائدية بمحاربتهم "المزعومة" لأمريكا وإسرائيل، وبأنها تدفع ما تدفعه نتيجة نُصرتِها لفلسطين. وعليه، قد تتمكن الجماعة المتمردة من حشد تعبئة داخلية غير مسبوقة لصالحها، تجذب خلالها وتجنّد المزيد من المقاتلين والمؤيدين، مما يعزز قدرتها العسكرية وسيطرتها على جزء كبير من اليمن

وفق إحصائيات الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها، قضى في الحرب الدائرة منذ أكثر من تسع سنوات، نحو 400 ألف شخص، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، علماً بأن عدد ضحايا حرب اليمن من الأطفال تجاوز 11 ألفاً، ثلثهم قتلى، ونحو 4 آلاف من الأطفال المجنّدين بينهم 91 فتاةً، وأكثر من 4.5 ملايين طفل خارج التعليم. وبحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن هذه الحرب هي "الصراع الأكثر تدميراً منذ نهاية الحرب الباردة مع آثار واسعة طويلة الأجل أدت بالفعل إلى انتكاس التنمية البشرية في اليمن بمقدار 21 عاماً".

وفي شباط/ فبراير المنصرم، اتهمت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، الحوثيين بالتوسع في تجنيد أطفال لا تتجاوز أعمار بعضهم 13 عاماً، بذريعة "القتال لأجل فلسطين"، مذكرةً بأن "تجنيد الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن 15 عاماً، جريمة حرب".

ولفتت المنظمة، في تقرير آخر، إلى أن الحوثيين يستهدفون السفن المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر بدعوى محاولة فك الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة، بينما يواصلون الحصار ومنع وصول المياه إلى المدنيين في تعز، ثالث كبريات مدن اليمن.

وفي تقرير ثالث، شددت "هيومن رايتس"، على أنه "منذ سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء، في 2014، ارتكبوا انتهاكات واسعةً للقانون الإنساني الدولي، وأضرّوا بمدنيين، بما في ذلك جرائم حرب محتملة، وهجمات عشوائية على مدنيين وبنى تحتية مدنية، وإخفاء مدنيين قسراً، وفرض حصار تعسفي على مدينة تعز جنوب غرب اليمن"، ملمحةً إلى أن الميليشيا المدعومة من إيران بهجماتها في البحر الأحمر، تورّط اليمن في مزيد من الأزمات، وتعرّض البلد المنهار اقتصادياً لخطر الهجمات الانتقامية.