ثورة 14 أكتوبر: شرارة التحرر الوطني في جنوب اليمن وبداية فجر الاستقلال

الكاتب مؤمن الحاج
في الرابع عشر من أكتوبر عام 1963 شهد الجنوب اليمني حدثًا فارقًا في تاريخه الحديث تمثل في اندلاع ثورة الرابع عشر من أكتوبر التي انطلقت شرارتها الأولى من جبال ردفان بقيادة الشهيد راجح لبوزة لتصبح خلال أشهر قليلة حركة تحرر وطني شاملة أنهت أكثر من قرنٍ من الوجود الاستعماري البريطاني في جنوب اليمن
كانت تلك الثورة نقطة تحولٍ حاسمة في مسار النضال العربي ضد الاستعمار إذ تداخلت فيها الأبعاد الوطنية والقومية وتوحّدت تحت رايتها مختلف فصائل المقاومة حتى تُوِّجت بالاستقلال الكامل في 30 نوفمبر 1967 وإعلان قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية
لم تكن ثورة 14 أكتوبر حدثًا عابرًا أو وليد لحظة انفعال سياسي بل كانت نتيجة تراكمات تاريخية ومعاناة ممتدة عاشها أبناء الجنوب اليمني تحت الاحتلال البريطاني منذ عام 1839 حين احتلت القوات البريطانية مدينة عدن بذريعة حماية طرق التجارة البحرية إلى الهند.
على مدى أكثر من مئة عام ترسّخت الإدارة الاستعمارية بأساليبها المعروفة: التجزئة السياسية والهيمنة الاقتصادية والقمع الأمني حتى غدت عدن مركزًا استراتيجيًا للإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط
ومع بدايات القرن العشرين بدأت ملامح الوعي الوطني تتشكل تدريجيًا في صفوف المثقفين والعمال والطلاب الذين تأثروا بحركات التحرر العربية والعالمية
وقد ساهمت التحولات الإقليمية — خصوصًا ثورة 23 يوليو في مصر عام 1952 — في إذكاء روح المقاومة إذ وجد اليمنيون في التجربة الناصرية نموذجًا عربيًا للتحرر والاستقلال
كان الجنوب اليمني في تلك المرحلة موزعًا بين مشيخات وسلطنات وإمارات صغيرة تخضع للحماية البريطانية المباشرة أو غير المباشرة وهو ما سعت بريطانيا إلى تكريسه لتسهيل السيطرة على المنطقة
غير أن تزايد الوعي القومي وتنامي دور القوى السياسية الجديدة وخاصة الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل جعل من المستحيل استمرار هذا الوضع إلى ما لا نهاية
وعندما اندلعت الثورة في أكتوبر 1963 كانت بمثابة الانفجار الطبيعي لمسار طويل من التململ الشعبي والرفض الوطني
لم تعد المطالب تقتصر على تحسين الأوضاع أو المشاركة في الحكم المحلي بل تجاوزتها إلى المطالبة بالجلاء الكامل وإنهاء الوجود البريطاني
لقد حمل المقاتلون الأوائل في ردفان راياتهم البسيطة لكنهم مثّلوا وجدان أمةٍ بكاملها فسرعان ما امتدت الثورة إلى مختلف مناطق الجنوب من عدن إلى حضرموت، ومن أبين إلى لحج وشبوة والمهرة
إن أهمية ثورة 14 أكتوبر لا تكمن فقط في نجاحها العسكري والسياسي بل في ما رسّخته من قيم وطنية ووحدوية.
فقد كانت الثورة مدرسةً في الإصرار والإرادة، ومختبرًا للوحدة الوطنية التي جمعت قبائل الجنوب ومكوناته المختلفة حول هدف واحد التحرر من الاستعمار وبناء دولة مستقلة ذات سيادة
لقد تميزت هذه الثورة بكونها جزءًا من حركة التحرر الوطني العربي التي شهدتها المنطقة في ستينيات القرن الماضي مثل الثورة الجزائرية وثورة ليبيا وثورة فلسطين وهو ما أكسبها بعدًا قوميًّا تجاوز حدود الجغرافيا اليمنية
ولذلك لم تكن ثورة أكتوبر مجرد حدث محلي بل كانت رسالة عربية وعالمية تقول إن إرادة الشعوب قادرة على كسر قيود الاستعمار مهما طال الزمن
ومع أن الطريق نحو الاستقلال كان مليئًا بالتحديات فإن الثورة استطاعت خلال أربع سنوات فقط أن تُحدث تحولًا جذريًا في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للجنوب اليمني.
لقد ولّدت قيادة جديدة تحمل مشروع الدولة الحديثة ورسخت مفهوم النضال الوطني المسلح كوسيلة مشروعة لانتزاع الحرية حين تغيب العدالة السياسية
ومن هنا يمكن القول إن ثورة 14 أكتوبر لم تكن مجرد فصلٍ من فصول التاريخ اليمني بل كانت بوابة العبور إلى الدولة الحديثة، وحدثًا أسّس لمرحلة جديدة من الوعي الوطني والعربي