الحوار المتأخر.. أقل كلفة من الحل المفروض خارجيًا!!

في لحظةٍ يضيق فيها الأفق، وتزدحم الساحة بالضجيج اكثر مما تحتمل الحقيقة، يصبح التفكير فعلَ شجاعة، ويغدو الحوار مسؤولية وطنية.
أن نمنح انفسنا فرصة التفكير بما هو موجود على ارض الواقع، لا كما يُراد لنا أن نراه، والّا ننخدع بالفرص الظاهرة او نستعجل اللحظة والإجراءات. فالمعوقات ليست قدرا محتوما، بل نتاج سياسات طال امدها، وخيارات، واصوات تعلو لتُخفي ما تحتها. وتجاوز هذه المعوّقات لا يكون بالقفز فوقها، ولا بتدميرها على نحو مستعجل. 
إنّ المدخل الأول لاي خلاص ممكن ينبغي أن يتم عبر حوار مسؤول يفوت الفرصة على الخارج الذي يتغذى من انقساماتنا ويستثمر في عجزنا عن الاصغاء.
اليمن اليوم، بما يحمله من جراح مفتوحة وتجربة قاسية، يقدم درسا بليغا لمن أراد أن يتعلم. سنوات من الصراع لم تبدأ من فراغ، ولم تستمر من دون محرك. فغياب الحوار الداخلي، وتحول الخلاف السياسي الى كسر عظم، اوجد للخارج طريقا معبدا. وحين انشغل الداخل بتبادل الاتهامات، وتخوين النوايا، وتقديس السرديات الخاصة، صارت الحقيقة اول الضحايا.
لم يكن الخارج اقوى من الداخل، بل كان الداخل اكثر هشاشة، واكثر استعدادا لتسليم قراره حين استنفد فرص التقارب بيده.
اليوم، تبدو إمكانية الكتابة نفسها عصية على التعليق، لا لأن الوقائع شحيحة، بل لأن كثافة المغالطات السردية والمبالغة تغرق المشهد. معلومات متداولة تصاغ بعناية لتضليل الشارع السياسي، وترويع المواطن العادي، وإشاعة شعور عام باليأس، وبأن لا امل يلوح في الأفق القريب ولا مخرج، إضافة الى منصات إعلامية تحولت من فضاءات للنقاش الى ساحات للشتم والقدح والتخوين، حيث يكافأ الصوت الأعلى لا الاصدق، ويقصى السؤال العاقل لصالح الهتاف الاجوف. في هذا المناخ، يصبح انصاف الحقائق مهمة شاقة، ويغدو البحث عن حل، او حتى فتح ثغرة للمعرفة، ضربا من السباحة عكس تيار جارف.
الأخطر من ذلك أن الأطراف، في كثير من الحالات، لا تريد أن تسمع الا صدى صوتها. فكل طرف يبني جدارا من اليقين حول نفسه، ويغلق النوافذ امام أي رأي مخالف. وهذا بالضبط ما يريده الخارج: اطراف تابعة، صماء، مستنزفة، عاجزة عن التقارب، حتى إذا ما استنفدت كل الفرص الداخلية، جاء "الحل" من الخارج كما يراد له، وعلى الجميع القبول به. عندها لن يعود السؤال: هل هذا الحل عادل؟ بل: لماذا وصلنا الى لحظة لا يصبح فيها قبول القرار الخارجي خيارا، بل اضطرارا؟
تجربة بلادنا تؤكد اننا ماضون نحو حلول وتسويات مفروضة ستتحول الى عبءٍ مستقبلي. فالتسويات التي لا تنبع من الداخل تظل هشة وقابلة للانفجار عند اول اختبار. وتذكرنا أيضا بأن الحوار، مهما تأخر، اقل كلفة من القطيعة، وأن الاعتراف بالواقع لا يعني الاستسلام له، بل فهمه تمهيدا لتغييره. لا أحد يطالب بالتنازل عن المبادئ، بل بالتنازل عن أوهام الإقصاء الكامل، وعن اعتقاد ساذج بأن الوطن يمكن أن يدار بصوت واحد او بمنطق غلبة القوة.
تقاربوا، ايتها الأطراف. فالقضية التي توحدكم اكبر من خلافاتكم، والوطن الذي يجمعكم أوسع من خنادقكم. افتحوا مساحات للحوار، والاتفاق على مرحلة انتقالية، وامنحوا أنفسكم مساحة للإنصات قبل الرد، وللتفكير قبل الاتهام. واغتنموا الفرص المتاحة، وإن كانت الفرصة الأخيرة لالتقاط ما تبقى من المبادرة، قبل أن يتحول ما ينبغي أن يكون درسا نتأمل فيه الذهاب نحو الامام الى مرآة نرى فيها مستقبلنا وبلادنا بلا ملامح. فوتوا الفرصة على الخارج؛ فالتاريخ لا يرحم من أضاع الفرص، ولن يعفي من سلم قراره طواعية، وحينئذ لن ينفع لوم الذات بعد التفريط بالمواقف والوطن، كما لن ترحمنا قسوة الوصاية وتبعاتها.