قصة: نفذ ثم ناقش
(الأول) قصة : د. عبدالحكيم باقيس
ـ أليس هناك يوم واحد للراحة في هذه الكلية التي كلها جري مستمر وكأنك في مضمار سباق الخيل.. الجري خمس مرات حول ميدان طويل منذ الفجر والعصافير في سباتها، ثم الجري خمسة أشواط أخرى بعد أن تعود العصافير بطانًا.. جري وطوابير ووقوف وتدريبات عسكرية متكررة.. قاسم.. ألا تشعر بالتعب؟!.
ـ يمكنك الحصول على يوم راحة من كل التدريبات، ولكن يجب أن تكون في سجن الكلية!.
ـ السجن مع الأعمال الشاقة..
ـ أنا أتكلم بالفعل.. هناك ينامون طول النهار، ويقدم إليهم الطعام بلا طوابير، لا جري ولا تعب.. مثل الفندق!.
ـ ومن يجرؤ على هذا السجن المريح؟!.
ـ عليك أن تخوض المغامرة أولاً..
ـ ...
ـ لا تستغرب.. ارتكب مخالفة تستدعي دخولك سجن الكلية.. رفيقنا جعبل في قسم المدفعية فعلها عدة مرات!.
ـ ولماذا لم تفكر أنت بهذا؟!.
ـ لا أريد الوقوع في أية مخالفات.. كتابة اسمي في لوحة الشرف يستدعي الانضباط الصارم.
ـ تبدو لي فكرة السجن ليوم واحد فكرة جيدة، على الأقل استدعي أجواء ما اطلعت عليه من كتابات عن السجن؟!. بالفعل هي مغامرة.. قليل من التمرد ربما يجلب قليل من الراحة.. والآن قل لي كيف أيها المدفعي والمخطط الاستراتيجي.
ـ برأيي أن تتعمد كسر أحد الأوامر العسكرية هو الخطوة الأولى.. اذهب وتحرش بأحد الضباط أو المدربين، ثم اكسر الأمر الذي سيوجهه إليك!. ولكن انتبه من أن يأخذ التحرش منح آخر..
يبدو أن كلمة التحرش لامست معنى تخيله قاسم فانفجر من الضحك وهو في طريقه إلى الحمام الملحق بالهنجر. أما حكيم فقد فقرر الخروج من الهنجر والبدء بتنفيذ خطة صيد الأمر العسكري المكسور، مخالفة قوانين الكلية العسكرية التي تتطلب الحركة كل الوقت بأسلوب الجري، فكرة جيدة.. التمرد من جنس العمل، هكذا فكر حكيم.. وبمجرد المشي المتثاقل الذي تحول إلى ما يشبه حركة الغراب الأعرج، جاء الصوت من بعيد:
ـ اجر يا عسكري.. اجر..
يبدو أن الخطة ستسير وفق المرسوم.. لقد جاء الأمر العسكري الذي يجب كسرة.. هكذا قال في نفسه، واقترب منه الصوت أكثر:
ـ اجر يا عسكري..
لكنه واصل المشي المتثاقل مثل غراب أحمق هذه المرة.. لم يرد وتعمد النظر إلى مصدر الصوت بما يوحي بالعناد.. وتكرر النداء هذه المرة من المسافة صفر، وبنبرة فيها من غضب الضابط الذي يقف أمامه ما يوحي بالاشتباك المباشر بين الاثنين، وبحزم قوي فيه عض شفاة وصرير أسنان:
ـ قلت اجـ....ري.. ياعسـ.... كري.. نفذ الأمر العسكري!.
ـ لا أريد الجري.. يكفي الجري في هذه الكلية التي لو وصلته لأكمل لفة على الكرة الأرضية..
ـ حاااااذق وفصيح كمااااان..
ـ .....
ـ يعني كاسر أمر..
ـ ...
إذن عقابك أن تسحك (تزحف) على الأرض من هنا حتى الشجرة هناك.
ـ لن اسحك.. ولن أزحف.. لست سحلية..
فكر في داخله أن يضحك، لكنه تمالك نفسه حتى لا يذهب (التحرش) بعيدًا عن الخطة المرسومة.. قال الضابط بصوت مرتفع أكثر من كل المرات السابقة، وكأنه يريد أن يلفت نظر من يشاهده من نوافذ الهنجر ليكون شاهدًا على المخالفات وتكسير الأوامر العسكرية:
ـ يا عسكري.. نفذ ثم ناقش..
ـ لن أنفذ ولن أناقش.. ما جدوى النقاش بعد التنفيذ!.
ـ أنت كاسر أمر لمرتين إذن.. ستنال عقابك..
كانت الأعين من خلف نوافذ الهنجر ترقب الموقف بين حكيم والضابط، على الرغم من النعاس الذي تشعر به بعد يوم شاق من التدريبات والواجبات والأوامر العسكرية.. القسوة والمبالغة في التدريبات من ضمن أهداف التربية العسكرية، هكذا دائمًا في الكليات العسكرية التي هي مصنع الرجال كما يقولون.. ولم يكن حكيم ليسمح بخيوط الخطة أن تفلت من يده، ويعلم أن جملة "نفذ ثم ناقش" تعني وصول الموقف إلى ذروته، كما أن هذه الجملة مقدسة في التعاليم العسكرية، وتستوجب الطاعة العمياء ولو كانت الأوامر أن تطلق النار على قدميك.. وهنا أخذ في محاولة الحديث إلى الضابط الذي زجره بقوة:
ـ استعد.. إلى الأمام سر..
سار بمحاذاة الضابط الذي قرر أن يذهب به إلى ضابط الميدان، تلك الرتبة العسكرية الأعلى سلطة في المناوبة اليومية.. وعند باب الضابط المناوب الذي كان مرتديًا بدلته الأنيقة وعلى أكتافه تلمع قطع معدنية مرصوصة بتنسيق جميل، لقد كانت تلك القطع اللامعة هي السبب الذي دفع بحكيم إلى اخيار الكلية العسكرية على الرغم من توفر الفرص العديدة أمامه في اخيار الكليات المدنية التي يريدها.. سمع الضابط يقول له:
ـ قف.. استعد.. ثابت.
هذه الكلمة (ثابت) كانت تبدو له في أول أمر التدريبات مناداة لشخص اسمه ثابت لم يظهر في أثناء التدريب.. لكنه علم بعد مدة أنها تعني قف ثابتًا بدون أية حركة.
وقف حكيم ثابتًا.. ينظر باتجاه الحوار بين الضابط الشاكي والضابط الميداني صاحب البدلة الأنيقة!. تنامى إلى سمعة الضابط الميداني وهو ينظر إليه قائلا: "اذهب به إلى ضابط الواجب ليسجنه" شعر أن خطته توشك على النجاج، فضابط الواجب هو المسؤول المناوب عن الحراسة والسجن.. نعم السجن، وتخيل نفسه ينعم بالراحة والنوم في السجن، كما وصفه قاسم، وتكررت الأوامر:
"إلى الخلف در" و"عاداااات سر.." ثم أمام غرفة ضابط الواجب عند البوابة العريضة "قف.. استعد.. ثابت" ظل ثابتًا في انتظار أمر دخوله السجن، "لقد تحققت الخطة" قال في نفسه.. لكن الأمر طال بعض الشيء.. ثم خرج ضابط الواجب، واقترب منه أكثر، كانت بدلته ورتبته قريبة من رتبة الضابط الشاكي، فقال:
ـ السجن ممتلئ منذ العصر بالمخالفين.. لا مكان فيه لشخص إضافي..
كانت تلك الكلمات تعنى فشل خطته وتمرده البسيط أصبح في مهب الريح، لم يكن انقلابه العسكري الذي ظل يخوض معاركه في داخلة غير محاولة فاشلة وانتصار وهمي تهاوى أمام غرفة ضابط الواجب..
قال ضابط الواجب للضابط الشاكي:
ـ خلاص يجري على الميدان الأسود عشر لفات، ويسحك ثلاثين متر..
كانت أعين الضابط الشاكي تبرق بالسرور والرغبة في الانتقام لأوامره العسكرية المكسورة، بدا أشبه بالشرير في أفلام الكرتون.. وكأن هذا العقاب البديل هو الذي كان ينتظره.. في مثل هذا الموقف لا بد من تنفيذ الأوامر، ومخالفتها تعني خروج خيوط اللعبة إلى ما لا تحمد عقباه.. استمع حكيم بآذان اجتاحتها الهزيمة لسلسلة من الأوامر من الضابط الذي لم يعد شاكيًا:
"استعد.. إلى الأمام سر" و"خطوة قصير.. سريعًا أجري" "اجري ياعسكري".. كان يجري ويجري..أرد أن يتكلم.. فجاءت مثل صاروخ موجه جملة "نفذ ثم ناقش".. وهكذا انقضى ثلث الليل بعد عملية تحرش فاشلة.. الميدان الأسود ساحة أسفلتية كبيرة معدة للاستعراضات العسكرية الصباحية لكل طلاب الكلية العسكرية، والجري حوله عقوبة قاسية.
حين عاد إلى الهنجر مثقلا بالهزيمة والتعب المضاعف، بأقدام منتفخة من كثرة الوقوف والجري العقابي، وأذرع مجروحة من السحك والزحف على الأرض التي تنتشر فيها الحصى الصخرية الصلبة مثل رذاذ قطع الزجاج المكسورة.. كان الجميع في سباتهم اللذيذ في انتظار يوم تدريبي قاس.. وفي أثناء صعوده الطابق الأعلى من السرير الحديدي ركل قاسم الممتد بالأسفل، ما جعله يطلق صيحة قام على أثرها نصف رفاق الهنجر، بدا في أعين قاسم مثل زومبي ممزق تسيل منه الدماء..
ـ بسم الله.. ألم تُسجن؟!.
ـ السجن ممتلئ، والطائر المبكر يفوز بالسجن الثمين!.
ـ وما الذي حدث لك؟!
ـ اسبدلوا السجن بعقاب جسدي.. عشر لفات في الميدان الأسود، وثلاثين متر أقوم فيها بدور سحلية!.
ضحك قاسم وبعض رفاق الهنجر، ونظر نحوهم:
ـ بالله عليكم هل شاهدتم أحد يكسر الأوامر من أجل السجن في آخر الليل، كان عليك أن تفعل ذلك في الصباح أو الظهيرة حين تخف الزحمة على السجن..
تزايد الضحك، وتذمر بعض النائمين مطالبين الجميع بالصمت والنوم.. قال لقاسم:
ـ كانت خطة ناجحة في التنفيذ، لكن توقيتها فاشل يا فاشل، كان عليك أن تخبرني بالتوقيت المناسب لتنفيذها.. يجب أن يُكتب اسمك في لوحة الحمقى..
ـ لم أكن أعلم أنك ستبدأ بالانقلاب على الأومر وأنا في الحمام.. أنت قائد مغامر..
تلقى قاسم ركلة إضافية وسط ضحك المستيقظين وتذمر النائمين.. فلا أحد يشك في صداقة الاثنين الحالمين ببدلات عسكرية ممتلئة بالنياشين والأوسمة..
عندئذ استدار قاسم محدقا في أقصى الهنجر، حيث السرير الفارغ، وقال:
ـ لقد أخذ جعبل موقعك في الفندق..
تعالت الضحكات من جديد..
لم يكن رفاق الهنجر الذين لم يتجاوز أكثرهم العشرين عامًا يعلمون ما تخبئ لهم الساعات القادمة من جراح وتشظي وألم سيحملونه معهم إلى قبورهم دون أن يعلموا سببا لذلك!.
13 يناير 2024