حكاية اغراق سفينة " دوريا دولت" في عدن .. وما خلفها أعظم

( الأول ) يسلط الضوء على الصراع السياسي في جنوب اليمن من 1818-2015 م (الحلقة2)

حكاية   اغراق سفينة " دوريا دولت"  في عدن  .. وما خلفها أعظم

الأول

إعداد / د. الخضر عبدالله: 

بعد ان تبينا دوافع البريطانيين المختلفة للسيطرة على عدن، فأننا سنحاول تتبع سير الحوادث التي أدت في النهاية إلى هجوم البريطانيين عليها واحتلالها بالقوة، في اليوم 19 من يناير سنة 1839م، وقد سبق هذا الهجوم تمهيد البريطانيين للسيطرة على عدن باتباع أساليب الضغط السياسي والحربي  وللعذر المباشر لاحتلال المدينة قصة جديرة بأن تروى.

 

أساليب الضغط السياسي  

 

اتبع البريطانيون أساليب في التمهيد لفرض سيطرتها على عدن تحقيقا لمصالحها الحيوية في منطقة البحر الأحمر، حيث بدأو باتباع أساليب الضغط السياسي، وذلك باستغلالهم لحداثة جنوح السفينة " دوريا دولت " سفينة الشراعية تبلغ حمولتها 225 طنا، وتملكها سيدة هندية من مدينة مدراس هي السيدة " البيجوم أحمد أم النساء"  أبنة حاكم مقاطعة " الكارناتيك" الهندية، كما أن ناخوذا " قائد " السفينة هو مواطن هندي يدعى نور الدين، وقد شحنت هذه السفينة  التي ترفع العلم البريطاني بمعرفة التاجر العربي " فريد أنسوف"، و ابحرت السفينة من ميناء كلكتا الهندي في اليوم السادس والعشرين من ديسمبر سنة 1836، ولم يكن للسفينة سوى الناخوذا المذكور بالإضافة لرئيس الشحن، أما بفية طاقمها فيتكون من اثنين من الضباط واثنين وعشرين من البحارة وعلى ظهرها مسافرين قدموا لأداء فريضة الحج، نظرا لأن السفينة كانت متجهة إلى ميناء جدة، وقد مرت السفينة بميناء" البي" بناء على تعليمات رئيس الشحن، حيث أضيفت إلى حمولتها بضائع أخرى ، كما ركبها مسافرون جدد بلغ عددهم  سبعة عشر فردا كان من بينهم بعض السيدات، ثم توقفت السفينة أيضا في ميناء " قشن" بالمهرة حيث شحنت بكميات أخرى من البضائع مما جعل حمولتها تزيد كثيرا عن الحد المقرر لها، غير أنها جنحت   إلى ساحل " أبين" على بعد 6 اميال شرقي وارتطامت  بصخور الساحل في الساعة الثالثة من صبيحة اليوم الرابع من يناير 1837م، (1) ولن يتمكن أفراد طاقمها من انقاذها،بل انهم هربوا في أحد زوارق الإنقاذ، ولكنهم غرقوا جميعا (2)  واختلفت الروايات حول مصير الركاب، فبعضها يقول إنهم غرقوا والبعض الآخر يؤكد أنهم قتلوا خلال هجوم البدو على ما تبقى من السفينة ونهب بضائعها وبيعها بأقل من قيمتها في عدن.(3)  

 

تضارب الأقوال حول حادث السفينة 

 

وعلمت حكومة بومباي بهذا الحادث عن طريق وكيلها في المخا، وهو احد اليمنيين من سكان الثغر، وذلك بعد أن نما إلى علمه تفاصيل ما حدث (4) وقد تضاربت الأقوال حول ما حدث للسفينة " دوريا دولت" بعد جنوحها، فالوثائق البريطانية تروي ان قاربين عدنيين صغيرين اقتربا من السفينة بعد ظهر يوم جنوحها، وصعد من فيهما إلى سطحها حيث نهبوا ما وجدوا مع ركابها، ثم كرروا فعلتهم في اليوم التالي، ورفضوا تقديم أية مساعدات لإنقاذ الركاب بعد أن امتلأت سفينتهم بالمياه، مما اضطرهم إلى أن يلوذوا بسطحها، على أن ركاب السفينة قد حاولوا الوصول إلى الساحل بصنع وسيلة للوصول من ألواح الخشب المتناثرة، غير أن بعض الأعراب هاجموهم واهانوهم ولم ينقذوهم من أيديهم سوى سيد يمني من آل العيدروس، ومن رجالات عدن المرموقين في ذلك الحين،فأحضرهم في قارب إلى ميناء عدن وقدم لهم طعاما وثيابا( 5) 

وقد مكث ركاب السفينة في عدن خمسة عشر يوما شاهدوا اثناءها حمولة سفينتهم وقد نقلت إلى جمرك المدينة، وأخذ السلطان ثلثها، بينما استولى آخرون على الثلث الباقي، كما استأثر السلطان لنفسه أيضا ببقية محتويات السفينة، ولهذا فقد حرص السلطان على عدم وصول أية شكوى تدينه لدى حكومة الهند، وأجبر "السيد " نور الدين ناخوذا السفينة الغارقة على التعهد كتابة بعدم رفع شكواه للحكومة البريطانية، وقد فعل نور الدين ذلك حماية لنفسه ولبقية الركاب الذين سمح لهم بالتوجه على ظهر قارب عربي صغير إلى ميناء مخا(6) حيث لجأوا لوكيل شركة الهند الشرقية البريطانية وأطلعوا على ما حدث ويقال أنه هو الآخر لم يحسن استقبالهم (7).

وبعد أن مكث ركاب السفينة " دوريا دولت" ثلاثة وعشرين يوما في ميناء المخا، أبحروا إلى جده على أمل اللحاق بأحدى سفن  الشركة لتعود بهم إلى بومباي، وعندما لم يتحقق أملهم عادوا ثانية إلى المخا على ظهر سفينة هندية حيث وجدوا سفينتين تابعتين للشركة هما " كوت وبالينورس " فاستقلوا السفينة الأخيرة حيث أطلعوا قبطانها " هينز" على ما حدث لهم، وتم نقلهم بعد ذلك إلى بومباي (8).

وكان الضابط البحري " هينز"  قد تبين في شهر ابريل سنة 1837أن البضائع التي أخذت من السفينة " دوريا دولت" تباع في أسواق عدن، بأقل من ثلث قيمتها، ولهذا فانه قام بأخطار سلطان لحج وعدن بضرورة المحافظة على تلك البضائع حتى يتم الاتفاق بشأنها مع السلطات البريطانية في الهند، خاصة وانها لابد ان تطلب منه تقريرا عما حدث للسفينة الهندية الحائجة ولركابها،(9) وقد أثيرت آراء متناقضة حول الأسباب التي أدت إلى غرق السفينة "دوريا دولت" فقد قيل ان البريطانيين عمدوا إلى تدبير جنوح السفينة بالقرب من عدن (10) في منطقة يسكنها البدو الفقراء لاغرائهم على نهبها ليكون ذلك سببا يتذرعون به لغرض سيطرتهم على هذا الميناء(11). 

كما ظهر رأي آخر يقول – مستندا إلى الوثائق البريطانية- بانه كانت هناك مؤامرة بين ناخوذا السفينة ورئيس الشحن بها حتى يقوم الأخير بشحنها بحمولة تزيد على طاقتها حتى تجنح إلى الساحل وتتعرض حمولتها للغرق، وان السبب في ذلك هو ان صاحب البضائع التي كانت تحملها السفينة كان قد أمن عليها بمبلغ يفوق بكثير قيمتها الأصلية وانه كان يريد ان يحصل على قيمة التأمين ويعطي لشريكيه نصيبهما، وان كان يتعارض مع الرأي الأخير احتمال أقدام ناخوذا السفينة ورئيس الشحن على المغامرة باغراق السفينة وهي مصدر رزقهما(12).

 ومن هنا فأننا نرجح الراي القائل بأن جنوح السفينة قد حدث دون تدبير او افتعال وان ما تعرضت له كان نتيجة لسوء تقدير بحارتها وثقل حمولتها من جهة، وإلى فعل العوامل الجغرافية من هبوب الرياح واحتدام الأمواج وارتطام السفينة بصخور الساحل الغريب من عدن من ناحية أخرى (13) ومثل هذه الحادثة غير مستغربة، بل كثيرا ما تحدث مثيلاتها في هذه المياه عند الساحل الجنوبي للجزيرة العربية لأفريقيا، غير ان السلطات البريطانية في الهند وجدت في هذه الحادثة فرصتها الذهبية فاستغلتها استغلالا فاحشا لكي تتمكن من تحقيق مآربها وتنفيذ مخططها للسيطرة على عدن بعد ان تبينت أهميتها الحيوية للمصالح البريطانية (14) . 

ويهمنا في هذا المقام أن نؤكد بأن نهب الأعراب للسفينة الجائحة " دوريا دولت" لم يكن ليبرر لبريطانيا على الاطلاق ان تفكر في احتلال عدن، خاصة وأننا سنجد أن سلطانها قد وافق على دفع الجزء الأكبر من قيمة التعويض الذي طلب منه عن البضائع المنهوبة كما انه تعهد بدفع الباقي أيضا، كما سبق ان وقعت حوادث نهب مماثلة لبعض السفن البريطانية على سواحل الصومال المواجهة لعدن في تلك الفترة، ومع ذلك لم يتخذ البريطانيون منها ذريعة لاحتلال بلاد الصومال كما فعلوا بالنسبة لعدن، وكل ما قام به البريطانيون حينذاك هو أنهم ارتبطوا بمعاهدات مع الصوماليين بأن لا تتكرر عمليات النهب، وتعهد الصومالييون بحماية أرواح البحارة وشحنات السفن الجائحة(15). 

وعلى أية حال فان البريطانيين لكي يحققوا ما كانوا يهدفون إليه من وراء تلك الحادثة- رغم الاعتبارات التي أوضحناها- فقد طالبوا السلطان محسن العبدلي سلطان لحج وعدن بارجاع البضائع المنهوبة من السفينة الجائحة، وتقديم تعويض عما لحق بها وبركابها، وقد رأى البريطانيون أن ذلك لن يتم إلا بالضغط على السلطان لاستخلاص التعويض منه وحسم الأمور، وذلك على النحو الذي بدأ واضحا في مذكرة حاكم بومباي المؤرخة في 14اغسطس سنة 1837 بشأن حادثة السفينة، وجاء فيها :" ان الاعتداء الشائن الذي ارتكبته سلطات عدن ضد الأشخاص والممتلكات في سفينة تحمل العلم البريطاني وتتمتع بالحماية البريطانية، يحتاج إلى اهتمام سريع وإجراءات حاسمة." بل ان إصرار البريطانيين على استغلال هذه الحادثة للسيطرة على عدن(16)

(للحديث بقية)