القصيدة الحدث في التجربة الشعرية لأسامة المحوري
(الأول)خاص.
كتب/راجح المحوري
صوت لا يخلو من خشونة يطغى على جَلَبَة المكان، متوجها إلى الشاعر أسامة المحوري أثناء خروجنا من مكان عام:
"نريد الطريدة يا محوري"
نفهم الإشارة إلى البيت:
"من طاردوك أخاف حرفك خطوهم
فارفق بقلب مطارد يخشى الطريدة"
فنتوقف باسمَين، ليكمل ذلك الرجل البسيط باقي القصيدة بأدائه اللغوي الركيك.
ليس بعيدا عن هذا دعوني أقول :
إن كل نوع أدبي يؤدي وظيفته الثقافية والفنية والجمالية الإمتاعية بطريقة مختلفة عن النوع الآخر، وهو يبلور معايير قيمته من خلال وظيفته الخاصة، فما أبحث عنه في النص الشعري قد يختلف عما أريده من النص السردي.. في الشعر قد تصبح القيمة الإمتاعية أعلى وأهم من القيمة الفلسفية والعقلية، ومن الممكن أن أقبل النص السردي لقيمته العقلية العالية، وإن جاءني في شكل باهت (كبعض الروايات المترجمة)، غير أنني لايمكن أن أتقبل نصاً شعرياً رديء الشكل، لا يحقق القيمة الجمالية الإمتاعية المباشرة.
بمعنى أن المعايير (المباشرة) لتقييم جودة ورداءة الشعر تختلف عن تلك التي نعتمدها لتقييم السرد، تختلف عن القصة وتختلف عن الرواية، لأن الشعر غالبا لا يكتب للتأمل، بل يكتب لهز العاطفة وإثارة المشاعر وتفجير الانفعالات، يكتب للترجمة المباشرة عن المتلقين له بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، وفي اللحظة التي يتلقونه فيها مباشرة.
الشعر يكتب للجمهور وإذا لم يصل إلى الجمهور ويحتفي به الجمهور ويتفاعل معه، فهو إذن دون المستوى. وهذا يعني أننا إذا استعملنا هذا المعيار المباشر لتقييم حضور النص الشعري لأسامة المحوري (جماهيريا) فإن النتيجة ستكون إيجابية ١٠٠٪.
الذي يتابع التجربة الشعرية لأسامة المحوري بتركيز سيجد أنه دائما يسعى لكتابة القصيدة (النبأ) أو القصيدة (الحدث) التي تتناقلها الألسن وتدور في المجالس وتحضر في الذهن عند وجود سياقاتها فيتم الاستشهاد بها، إذ يبدو أن الهاجس المنتج للقصيدة عند المحوري تفرضه حساسية خاصة لديه ترفع مستوى قلقه من كتابة القصيدة العادية، التي تأتي كما يأتي صوت صاحب البسطة صباح اليوم التالي، بعد أن قضى اليوم الأول داعيا إلى بضاعته التي (نعرفها) بنفس الكلمات التي (نعرفها)..!
وطبعا هناك عدة آليات يقوم باستخدامها (بوعي أو بغير وعي) تؤدي في النهاية إلى إنتاج النص الشعري المحلّق، وهي آليات شعرية أسلوبية دقيقة، سأكتفي بالتعميم حول أهم ثلاث آليات لاحظتها في قصائده عموما.
الآلية الأولى: هي آلية (التحديث) حيث يقوم بمحاولة تطويع وتكييف بُنية القصيدة لتستجيب للتصورات والأخيلة التي تتبلور في الذهن نتيجة الاحتكاك بالنتاج الحضاري، سواء على مستوى المادة، أو على مستوى القيمة الجمالية، وهذا لا يمكن أن ينتج عنه النص الجيد مالم يمتلك الشاعر إلى جانب مفاتيح عبقرية وسحر اللغة، ثقافة عصرية عالية تصبح فيها المفاهيم الجديدة جزء من التغذية الثقافية اليومية وجزء من الحوارات الاعتيادية، حتى تلين ومن ثم تمتزج ضمن الخميرة الذهنية والعقلية لذات الشاعر فتتسرب إلى النص الشعري كما يتسرب مذاق حلاوة قطع السكر في كأس من (الإسبريسو) الدافئة.
الآلية الثانية: وهي ما يمكن أن نطلق عليها آلية (البيت اللاذع) أو البيت الأيقونة الذي يثبت في الذاكرة بمجرد سماعه، فعندما تقرأ قصائد أسامة المحوري، وتتأمل الأبيات فيها تجد أن معظم قصائده تتكون من أبيات أيقونية تشكل وجودها وكياناتها الخاصة باستقلالية كاملة، بحيث يمكنها أن تعيش حتى بدون القصيدة الأم (كمعمار عام)، هذه الأبيات (الأيقونات) تولد وهي تحمل معاني كاملة دون سند مما يسبقها أو يلحقها، حتى أنها لن تحتمل أي إضافة ولو كانت نثرا، ولذلك فعندما تأتي قصيدة واحدة بهذا الشكل الكثيف المتين المتوهج تصبح (حدثا) يصعب أن يمر على الذهن مرورا عاديا.
الآلية الثالثة : هي آلية (التقليم) وهنا لابد من ملاحظة أن المحوري بالفعل يمتلك شجاعة إجراء العمليات الجراحية القاسية على (بناته الورقيات) هذه العمليات التي تُبتر فيها الأطراف والزوائد والأورام، بحيث لا يبقى إلا النص الصحيح الناضج الرشيق، وهذا يفسر لدي أن أكثر قصائده تأت بأحجام ليست بالطويلة.
هذه الآليات الثلاث في تقديري ضمنت للنص الشعري عند أسامة المحوري قوته ومرونته وسهولة حفظه، ومن ثم انتشاره وتردده على الألسن حتى بين الناس العاديين، كما هو الحال في القصة مفتتح هذا الموضوع، ومن المؤكد أن فهم الشاعر أولا وحسن استعماله لهذه الآليات ثانيا وبطريقة صحيحة فاعلة، لم ينفصل عن إصراره على الوصول باللغة في قصيدته إلى أرقى درجات السحر والإبداع والخصوبة وقوة التعبير، حتى تتحول الجملة الشعرية إلى صورة تخييلية كاملة النضج والثراء والحيوية.
اخيرا أقول لأصدقائي الشعراء:
إذا كان لابد من أن تكتبوا؛ فاجعلوا قصائدكم أنباء تسير في الزمان بلا توقف، وتطير بها هداهد المتذوقين إلى كل مكان، ارفعوا سقف الكتابة الشعرية أكثر، اجعلوا الوصول إليها صعبا ومرهقا كما كان الحال قديما، ارفعوا سقف الانتساب إلى الشعر، واجعلوا شروط الاعتراف بالشاعر أقسى مما هي عليه، وذلك حتى تجنبونا الغثاء اليومي ممن استسهلوا القفز على حائط القصيدة العربية.