كيف صاغ ابن عبيد الله السقاف (بضائع التابوت) و(إدام القوت)؟
مسعود عمشوش
على الرغم من المكانة الكبيرة التي تحظى بها كتابات عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف بين النقاد والمؤرخين فلا تزال نادرة جدا الدراسات التي كرست لتلك المؤلفات، لاسيما التارييخية منها، إذ أن هناك إطروحتين تناولتا كتاباته الأدبية والنقدية. لهذا رأيت أن أكرس السطور الآتية لتقديم الكيفية التي ألف بها ابن عبيد الله كتابه (بضائع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت)، والطريقة التي لخصه بها ليؤلف (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت). ومن خلال هذا التقديم، سأحاول أن أبيّن أن ابن عبيد الله هو المؤرخ الفعلي والمثالي للأحداث الكثيرة التي عصفت بحضرموت خلال النصف الأول من القرن العشرين.
يقع كتاب (بضائع التابوت في نتفٍ من تاريخ حضرموت) في ثلاثة مجلدات ضخمة، ولم يُنشر مطبوعاً بعد، ويقول ابن عبيد الله في مقدمته إنَّ الذي دفعه إلى تأليف الكتاب رغبتهُ في تصويب بعض المقولات الخاطئة المتداولة في الكتبِ التي اعتنت بتاريخ حضرموت والمقروءة في أيامِه، وكذلك إعادة الاعتبار لجدِّهِ محسن السقاف ورفاقه.
وفي الحقيقة يتجاوز محتوى الكتاب الملاحظات والتعليقات والهوامش التي رُمِاها ابن عبيد الله في الصندوق خلال إقامته عند الإمام في صنعاء؛ فهو يتضمّن كثيراً من مذكرات المؤلف، الذي اعتمد كذلك في تحرير كتابه على أشهر نصوص المؤرخين الحضارم الموجودة في مكتبته في سيئون، مثل كتب ابن حميد وبامخرمة، ومراسلات جده محسن السقاف.
بالنسبة لطريقة ترتيب المؤلف لمواد البضائع، فقد ذكر ابن عبيد الله أنه وزّعها على شروحات خمسة وثمانين بيتا تتكوّن منها القصيدة السينية، التي عارض بها قصيدة عارض بها أحمد شوقي قصيدة للبحتري.
يتضمن المجلد الأول من (بضائع التابوت) شرح الأبيات من 1 إلى 42 من هذه القصيدة. وكُرِّست الأبيات الأولى منها للتأكيد على أهمية التاريخ، والدعوة للاعتبار من أحداثه، والشروط المطلوبة في المؤرخ، ومنها العدل والابتعاد عن التعصب، والالتزام بالإسناد، وذكر المراجع.
ولم يشرع مؤلف (البضائع) في التصدِّي الفعلي لموضوع الكتاب (تاريخ حضرموت) إلا اعتبارا من شرح البيت السادس عشر؛ ففي شرح هذا البيت إلى شرح البيت الثاني والعشرين يقدّم لنا ابن عبيد الله عرضاً عاماً لتاريخ حضرموت القديم، واسمها وحدودها وسكانها وقبائلها ودياناتها القديمة.
ويتضمن المجلد الثاني من (البضائع) شرح الأبيات من 43 إلى 51. وفي هذا البيت الأخير، الذي يقع في نحو خمسين صفحة، يتناول المؤلف عددا كبيرا من الموضوعات؛ أهمها تقديم السلاطين القعطة ونجاحهم في إزالة منافسيهم من اليوافع الآخرين، واتفاقياتهم مع الأنجليز، وصراعهم مع آل كثير، ومعاهدة الصلح بين السلطنتين، وزيارة السلطان عمر للوادي. ويتضمن شرح هذا البيت نبذة عن بعض السلاطين القعطة وحامد المحضار الذي استقبله ابن عبيد الله في بيته في سيئون.
ويكرس المؤلف المجلد الثالث من (البضائع) لشرح الأبيات من 52 إلى 85، ويسرد فيه أحداث تأسيس الدولة الكثيرية الثانية وعلاقتها بالإنجليز والقعيطي. وبشكل عام، يأخذ السرد في هذا الجزء أسلوب الحوليات التي تتكئ في البداية كثيرا على تاريخ ابن حميد، الذي كان معاصرا لتلك الأحداث، وتكررت فيه كثيرا عبارة "وقال ابن حميد". ويعتمد ابن عبيد الله كذلك على مذكراته لسرد الأحداث التي كان شاهدا لها أو مشاركا فيها. ويعتمد كذلك في هذا الجزء على مراسلات جده محسن السقاف وأحاديثه.
ثم يأخذ شرح البيتين 52-53 صيغة الحوليات ويسرد عددا كبيرا من الحوادث التي جرت في حضرموت منها، حادثة المولد في عهد السلطان منصور، ووصول القنصل الهولندي فان دن ميولن وغيره من الأجانب إلى حضرموت، وحوادث ابن عبدات في الغرفة، وشيخ الكاف في تريم، وآل الصقير والعوامر والعبيد ونهب قافلة الحجاج وآل خالد بن عمر. ثم يتحدث عن مكاتبة سعيد باشا للحضارم، ودوره فيها وانتكاس الختم وحرب قسبل وغزو الدولة الكثيرية لشبام، وانتهاء الحرب العالمية الأولى وقدوم المحضار لسيئون، والمعاهدة بين السلطنتين، وقسمة الدولة الكثيرية بين آل عبدالله، وقضية ابن فارس، وقضية باسلامة والعلويين والارشادين، وحوادث العبيد، وخطبة العيد في القرن، وحادثة النويدرة، ومشكلة الهلال، وموت السلطان منصور في الحج، وإكمال سور سيؤن في عهد علي بن منصور، وفتنة العبيد وآل الكاف وانتقالهم إلى سيئون ثم عودتهم إلى تريم، وحادثة الجحي، وتدخل الإنجليز مباشرة في شئون حضرموت، ووصول عبد الله فليبي إلى حضرموت، وانجرامز والهدنة، وقضية آل جابر مع حسن شيبة، وموت علي بن منصور، ومعاهدات الاستشارة، وفتنة الغرفة ورميها بالطائرات.
واعتباراً من شرح البيت 57 إلى شرح البيت 83، يتناول المؤلف سيرته الذاتية وتاريخ عائلته. وهو هنا إنما يقتفي أثر كثيرٍ من الكتاب العرب، والحضارم بشكل خاص، الذين كانوا يحرصون على اختتام كتبهم المهمة بترجماتهم أو سيرهم الذاتية عملا بقول الله تعالى أما بنععة ربك فحدث.
وكما ذكرنا يتبين لنا من خلال هذا التقديم أنّ ابن عبيد الله قد أرّخ بشكل تفصيلي وحي ومن موقع المشاهد والمشارك معظم الأحداث المهمة التي شهدتها حضرموت في النصف الأول من القرن العشرين.
أما كتاب (إدام القوت في ذِكر بلدان حضرموت) فهو ملخص وإعادة صياغة وترتيب (لبضائع التابوت)، وقد شرع ابن عبيد الله في تلخيص البضائع في نهاية أربعينيات القرن الماضي وذلك بناءً على طلب من الشيخ عبد الله بلخير، الذي اقترح عليه أن يجعله في شكل تقديم لبلدان حضرموت، ليسهل الاطلاع عليه والرجوع إليه. لهذا وزّع ابن عبيد الله مادة كتابه (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت) على ثلاثة أجزاء مرتبةٍ حسب الموقع الجغرافي لمدن حضرموت وقراها، انطلاقا من غرب ساحل حضرموت باتجاه شرقه، أو من أعالي وديانها إلى أسفلها.
ويمكن أن نلاحظ أن ابن عبيد الله قد اختار للملخص عنوانا يتضمّن صدًى صياغياً لعنوان الأصل؛ فقد أسماه: (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت). وحسب علمنا لم يضع لكتابه هذا عنواناً آخر. وفي الحقيقة لم يسع ابن عبيد الله، حينما تناول معظم مدن وقرى حضرموت المعروفة في زمنه، إلى ترتيبها بالطرق المتبعة في المعاجم، أي وفق الترتيب الألفبائي أو بأي طريقة أخرى متبعة في تصنيف المعاجم. لهذا فـ(إدام القوت) ليس معجماً، بل مصنفا يذكر بلدان حضرموت، بدءاً بتلك الموجودة في الساحل، ثم في وسط حضرموت، وأخيرا تلك المناطق الموجودة في بعض رؤوس الجبال والأطراف الصحراوية، والتي يطلق عليها المؤلف: النجود.
يبدأ (الإدام) بمقدمة قصيرة يشير فيها إلى أنّ الكتاب هو "ما انتهى به السير في اقتراح بلخير". ويضمنها كذلك إهداء الكتاب للأمير سعود بن عبد العزيز ولي عهد ملك الحجاز ونجد. ويتبع هذه المقدمة تقديم عام لحضرموت يقع في ثلاث وعشرين صفحة. وإذا كان المؤلف قد حرص في مقدمة الأصل على التنويه أن كتابه يتضمن "نِتفاً من تاريخ حضرموت"، فهو يعطي لتقديمه الطويل للملخص صبغة جغرافية؛ إذ أنه يتناول فيه اسم حضرموت في تسع صفحات، ثم خصائص حضرموت بدءاً بخصوبة تربتها، ثم جمال نسائها ومنسوجاتها وبردها المشهورة في مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكذلك إبلها ونوقها وحميرها ونخيلها وخناجرها ونعالها. ومن خلال محتوى التقديم يمكننا تصنيف الإدام ضمن كتب الجغرافيا البشرية.
يكرس المؤلف الجزء الأول من (الإدام)، الذي يقع كما ذكرنا في مئة وثماني وسبعين صفحة، لتقديم مدن ساحل حضرموت وقراه. وفي الحقيقة كثيرٌ من الصفحات التي كُتِبت عن ساحل حضرموت لا توجد في الأصل، ويبدو أن المؤلف قد انكبّ على تحريرها عندما قَبِل العملَ بنصيحة عبد الله بلخير وجعلَ الكتاب يشمل ذكر جميع بلدان حضرموت.
ويحتوي الجزء الثاني من الكتاب على تقديم القرى والمدن التي تقع في أواسط حضرموت من أعلاها إلى أدناها ويقع في نحو ثمانمائة صفحة، ومن الواضح أن سبب اتساعه يعود إلى معرفة ابن عبيد الله الواسعة والدقيقة بجميع مدن حضرموت الداخل وقراه وشعابه وحصونه، التي حرص على تقديمها كلها حتى تلك التي لم تعد موجودة اليوم أو التي لم يعد يسكنها أحد، مثل سمل ودمح وخباية.
ويتضمن الجزء الثالث القصير جدا، تقديما موجزا لنجود حضرموت. ويقسم نجود حضرموت إلى جنوبية تضم كور سيبان والحالكة والعكابرة والخربة وبحسن. وشمالية تضم: ريدة الصيعر وما حولها، ونجد آل كثير، ونجد العوامر، ونجد المناهيل، وصيهد حضرموت.
وإذا كان (الإدام) يقع كما ذكرنا ضمن كتب الجغراافيا البشرية فمن المؤكد أن (البضائع) كتابٌ يدخل في إطار المؤلفات التاريخية، ولا يختلف كثيراً عن كتب التاريخ التي وضعها كثيرٌ من الحضارم والعرب الآخرين من ناحية عدم الالتزام بمنهج صارم في جمع المادة التاريخية وتقديمها. ومن المؤكد كذلك أن ابن عبيد الله لم يبتكر، باتباعه شرح أبيات قصيدة طويلة لترتيب مواد (البضائع)، طريقة جديدة في تأليف الكتب؛ فمن المعلوم أن كثيرا من الكتب التعليمية قد اتكأت على شرح الأراجيز.
وقبل أن نختتم هذا التقديم الموجز علينا أن نشير إلى أن نفس ابن عبيد الله في الكتابة طويل، وأن لديه طريقته الخاصة في التفكير التي تمكـّـنهُ من الربط بين الموضوعات بطريقة قد لا يستوعبها كثيرٌ من القراء. فهو كثيرا ما يستطرد ويخرج من الموضوع الذي يتناوله ليتحدث عن موضوع مشابه، وربما له علاقةٌ ما غير مباشرة بالموضوع الأساس.