بدايات الصور الفوتوغرافية وتوظيفها في الكتب والمجلات
مسعود عمشوش
في القرن الثامن عشر سعى مؤلفو (الأنسيكلوبيديا أو دائرة المعارف) الفرنسية إلى تقديم عناصر بصرية لتوضيح المعلومات المختلفة التي ضمنوها مؤلفهم الضخم. ولم تكن لديهم وسيلة أخرى غير الرسومات التوضيحية التي تعتمد حينذاك على المهارات اليدوية، وكثيرا ما تفتقر للدقة والمصداقية. ويمكن أن نذكِّر هنا أن الرحالة الدبلوماسي الفرنسي أندريه مالرو استطاع أن يخدع قراءه برسوماته التي زعم بواسطتها أنه شاهد من طائرته سنة 1936 أبراجا شاهقة كانت لا تزال قائمة في مدينة سبأ (مأرب) القديمة.
أما التصوير الفوتوغرافي فيعدُّ إحدى ثِمار الثورة الصناعية في مطلع القرن التاسع عشر، وأداة تقنية كانت في بداياتها تجمع بين استخدام الفحم والحديد الزهر والصلب وإضاءة الغاز. وقد شكلت هذه التقنية نموذجا حيّا للتقدم التقني الذي شهدته العصور الحديثة، ولا يمكن فصلها عن تقدم الكيمياء التي أتاحت للفرنسيين نيبس وداجير وبايار Niepce وDaguerre وBayard والبريطاني تالبو Talbot توظيف المواد الحساسة للضوء (أملاح الفضة القادرة على الحفاظ على بصمة الصورة المستلمة في الغرفة المظلمة) لتجميد صورة طبق الأصل لملامح الواقع في لحظة التقاط الصورة.
وتعود المحاولات الأولى للتصوير الفوتوغرافي إلى سنة 1822 حينما طور Nicéphore Niépce وLouis Daguerre ما سمياه أولا: التصوير الهليوغرافي، وهي عملية تكمن في تثبيت الصور من (الكاميرا المظلمة) على صفيحة مطلية بالبيتومين واليود. لكن العملية لم تنجح إلا عندما أتقن داجير نموذجه من خلال عملية سمحت بتثبيت الصورة وحفظها على لوحة فضية، وقد تمّ نشر أول صورة فوتوغرافية سنة 1839 التي تعد نقطة تحول في تاريخ التصوير الفوتوغرافي. وبالتوازي مع ما أنجزه Niépce و Daguerre، طوّر البريطاني William Henry Fox Talbot، تقنية (المسودة السلبية negative) التي جعلت من الممكن إنتاج عدة مطبوعات من (مسودة سلبية) واحدة.
وبعد منتصف القرن التاسع عشر بدأت محاولات التقاط الصور الملوّنة التي صبحت أكثر موثوقية. ففي سنة 1869 نجح لويس دوكن دي هورون في إنتاج أول صورة فوتوغرافية ملونة. وبعد ذلك بتسع سنوات أطلق جورج إيستمان، مؤسس شركة كوداك، أول كاميرا تجارية مزودة بفيلم لفاف، مما جعل التصوير الفوتوغرافي متاحًا لعامة الناس. وشهد هذا الابتكار اختراع فيلم كوداكروم الملون سنة ١٩٣٥ واختراع بولارويد سنة ١٩٤٨. وقد أتاح هذان الاختراعان الطباعة الفورية للصور الفوتوغرافية. وشهدت ثمانينيات القرن العشرين بداية التحول إلى التصوير الرقمي عندما اخترعت سنة ١٩٨٠ أولى الكاميرات الرقمية. وغيّرت هذه الثورة طريقة التقاط الصور وتخزينها ومشاركتها بشكل جذري، وأضفت عليها أبعادا وإمكانيات إبداعية وتقنية جديدة.
توظيف الصور الفوتوغرافية في الكتب والمجلات:
منذ ظهور نموذج داجير للتصوير الفوتوغرافي شرع أحد تلامذته، الناشر الفرنسي Noël-Marie Paymal Lerebours، في استخدام هذه التقنية الجديدة في مكان الرسومات التوضيحية في الكتب، حيث قام في سبتمبر 1839 باستنساخ صور تمّ التقاطها من قبل فريق من العاملين في المطبعة ونشرها في كتاب يقدم أجمل الأماكن المشهورة حينذاك.
وبعد عشرين عاما من ذلك التاريخ نشر جيد وبودري صورا فوتوغرافية التقطت في مصر والنوبة وفلسطين وسوريا خلال الأعوام 1848 و1850 و1851، ومصحوبة بنصوص توضيحية ومقدمة كتبها ماكسيم دو كامب، المسؤول عن بعثة أثرية أرسلتها وزارة التعليم العام في فرنسا للشرق. ويحتوي هذا الألبوم، الذي يعد أول كتاب رحلات موضحا بالصور الفوتوغرافية، على مائة وخمسة وعشرين صورة. وقد طبعته دار الطباعة الفوتوغرافية Blanquart-Evrard في مائتي نسخة فقط في أكتوبر 1852. ومن المعلوم أن دي كامب قد اصطحب معه في تلك البعثة صديقه الروائي غوستاف فلوبير، مؤلف رواية (مدام بوفاري).
ومنذ منتصف القرن التاسع، الذي شهد كذلك الانتشار الواسع للمطبعة، برزت ظاهرة جديدة غيّرت جذريا طريقة جذب عين القارئ؛ وتجسدت في استخدام الصور الفوتوغرافية بكثافة في الكتب والمجلات وهذا ما جعل النقاد يتحدثون عن سطوة الصورة في الكتب الأدبية وكتب الرحلات وغيرها، وباتت الصور من أهم العناصر المحفزة على مواصلة القراءة.
وبما أن معظم الرحالة الغربيين الذين زاروا بلادنا منذ نهاية القرن التاسع عشر قد حرصوا على تضمين كتبهم كثيرا من الصور لضمان انتشارها بين القراء، فقد ضمنت دراستي للكتب التي نشرها بعض هؤلاء الرحالة، فصولا قدمت فيها الصور التي ضمنوها تلك الكتب، فكرست فصلا من كتابي (حضرموت في كتابات فريا ستارك) لتقديم الصورة عند فريا ستارك. وكرست فصلا من كتابي (المستكشف هاري سانت جون فيلبي) لتقديم الصور والرسومات التي احتواها كتابه (بنات سبأ).
وبسبب سطوة الصورة في ذلك العصر، تمت طباعة كثيرا من النصوص التي لا تتجاوز مخطوطاتها المئة الخمسين صفحة، في 450 صفحة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كثيرا من المحققين (الحداثيين)، الذين تولوا نشر بعض نصوص أدبائنا – لاسيما النصوص الخاصة بأدب الرحلة- اختاروا أن يضمونها مئات الصور الفوتوغرافية، وذلك سعيا منهم لمساعدة القارئ على مشاهدة الأماكن التي زارها صاحب الرحلة. هذا ما فعله، مثلا، الدكتور محمد أبوبكر حميد في كتاب (يوميات باكثير)، وما فعله المحقق محمد أبوبكر باذيب عند نشره لكتاب شيخ الحبشي (الشاهد المقبول بالرحلة إلى مصر والشام وإسطنبول).
وإضافة إلى توظيفها في الكتب بمختلف أنواعها استخدمت الصورة بكثافة في كثير الصحف والمجلات الغربية الشهيرة منذ قبيل منتصف القرن التاسع عشر، وظهرت العديد من المجلات الإخبارية المصورة مثل (أخبار لندن المصورة 1842)، وL'Illustration Illustrierte Zeitung في لايبزيغ، 1843، وLa Illustracion في مدريد، 1849 وصحيفة فرانك ليزلي المصورة في نيويورك، 1855، ولوموند إيلوستري في باريس، 1857، وهاربر ويكلي في نيويورك، 1857. ومنذ ذلك الحين أصبحت الصور عنصرا مهما وضروريا في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. وصدرت كذلك بعض هذه الدوريات المكرسة بالكامل تقريبا لتقارير السفر والصور الكثيرة المصاحبة لها، مثل Le Tour du monde، التي تأسست سنة 1860، أو Revue maritime et coloniale التي نشرتها وزارة البحرية والمستعمرات من عام 1861، ومجلة ناشيونال جيوغرافيك التي أصدرتها في أكتوبر 1888، الجمعية الجغرافية الوطنية الأمريكية.
وبعد الحرب العالمية الأولى، بينما أصبح التصوير الفوتوغرافي شائعا في الصحافة الغربية اليومية، وظهر جيل جديد من المجلات المصورة مثل: Arbeiter Illustrierte Zeitung (1925) ، Vu (1928)، Life (1936)، Match Paris (1938)، أو Voilà، Regards ، Le Miroir du monde.
وفي الوطن العربي لم تنتعش المجلات التي تعتمد على نشر أعداد كبيرة من الصور إلا في ستينيات القرن الماضي، ولعلّ أشهرها مجلتا (المصوّر) و(آخر ساعة) القاهريتين.