أين الحقيقة في فيلم حرب اليمن السرية؟
فيلم مثير لمحتوى أكثر إثارة، لكنها إثارة صرخة احتجاج فرضتها أساسيات الفيلم الوثائقي ، لتخرج الإمارات من قفص الاتهام إلى فضاء البراءة....!
خطرت ببالي هذه المقدمة القصيرة جدا بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم الذي أنتجته قناة BBC خلال ثلاث سنوات كما يحاول منتجو الفيلم إيهامنا...!
ولابد قبل الدخول في تفاصيل الفيلم من الإشارة إلى معلومات اساسية يعرفها المشاهد الذي يمتلك قليلا من المعرفة فضلا عن المختصين، وهي أن الفيلم الوثائقي الاستقصائي خصوصا ليس شكلا فنيا يزيّن فيه المخرج بعض المشاهد لتبدو أكثر تشويقا وإثارة ويسير به وفق خط مرسوم سلفا، بل هو سلسلة حقائق مبنية على شواهد ووثائق دامغة لاتتدخل في صياغتها الرؤية الخاصة للجهة المنتجة أو المخرج، وبسهولة يستطيع المُشاهد بذكائه التمييز بين الوثيقة ذات الدليل وتلك التي تحمل صبغة مكياجيّة لتمرير آراء ذات توجه سياسي معين.
هكذا يطلُّ علينا فيلم قناة ال BBC عربي الذي يصرّ منذ لحظته الأولى على توجيه الاتهام لدولة الإمارات العربية المتحدة بالاغتيالات التي حدثت في عدن..!
بعد مشاهدتي الفيلم اتضح لي بجلاء أن الفيلم ينقصه كثير من معايير الفيلم الوثائقي الاستقصائي ، وهذا النقص أو القصور فرضته الغاية من إنتاجه.
سأتناول في هذا المقال بعض جوانب النقص والفجوات الفنية وأضعها على شكل نقاط متسلسة، مع التأكيد بأن هناك أمور فنية كثيرة غيرها، لاتتسع لها مساحة المقال:
1_في مقابلة ديل كومستوك وإسحق جيلمور ، اللذين يعملان في شركة سبير الأمريكية الأمنية، يظهر الفيلم بعض تدريبات تبدو عسكرية بفلوريدا ، في المقابل لاتوجد أي مشاهد تدل على وجود تلك القوات في عدن، ولو افترضنا جدلا أهمية مثل هذا الكلام، فهل من المعقول أن مثل هكذا شركات أمنية عالمية تفشي أسرار عملها وعملائها والمتعاقدين معها بهذه السهولة؟!
2_ حاول الفيلم إيهامنا بأنه احتاج لثلاث سنوات من الجهود الاستقصائية المضنية عبر لقاءين عاديين مع إسحق جيلمور، كان الأول عام 2020 والآخر عام 2023، ولم نخرج بحقيقة واحدة مدعومة بالأدلة، مجرد حديث بطريقة أقرب إلى سيناريو مكتوب وفق رغبة المنتج ورؤية المخرج؟!
3_ يقول التعليق الصوتي أنه "بعد ثلاث سنوات عندما سُربت صور الدرون الاماراتية التي استؤجرت لاغتيال إنصاف مايو إلى وسائل الإعلام الدولية اكتشف انصاف أنها قد استؤجرت لاغتياله "
وكأن التعليق وحيٌ سماويٌ دامغ، في حين أن الصورة المعزّزة للتعليق لا تؤكد الخبر إطلاقاً، بل لا تمت له بصلة، مجرد لقطة لسيارة محروقة وحديث مع ديل كومستوك لايمثل أي توثيق أو تأكيد لوقوف الإمارات وراء محاولة الاغتيال؟ !
من المهم هنا توضيح إحدى أساسيات الفيلم الوثائقي، أنه لا بدّ أن يتضمن إجابات واضحة ومحددة لتساؤلات المشاهد، وهي ماتعرف ب (5WH questions )
من الذي سرّب الصور؟
من الذي استأجر الدرون؟
كيف نتأكد بأنها إماراتية ؟
كيف اكتشف انصاف أنها طائرات درون إماراتية استؤجرت لاغتياله ؟
لم يذكر الفيلم مطلقا أيّ معلومات ، لم يُجب على أسئلة كهذه تدور في عقل المشاهد، فقط تعليقات صوتية تعتمد على جرس الكلمات المرصوفة دون دليل استقصائي ولا حتى مايمكن استنتاجه بناء على وثائق مسربة مادام التسريب قد ورد أكثر من مرة في سياق الفيلم..!
4_ علّقت الراوية بهذا :"هرب إنصاف من اليمن بعد الهجوم، ويعيش الآن في المنفى في المملكة العربية السعودية "
كيف هرب النائب إنصاف مايو إلى المملكة العربية السعودية المتحالفة مع الإمارات العربية المتحدة، التي تقف وراء محاولة اغتياله...!
ألا ينفي هذا الأمر من الأساس أنه كان على قوائم الاغتيال ؟
5_استمرت راوية الفيلم، ووجهت سؤالاً ل ديل كومستوك: "لماذا تم استهداف إنصاف مايو تحديدا واعتباره ارهابيا ؟ فكان رده " أن هناك سببين " ولم يبث الفيلم إلا سبباً واحداً وهذا غير مقبول لأن المشاهد ينتظر سماع السبب الثاني الذي لم يبثه الفيلم ..!
لعل السبب الذي يريد المخرج أن يسمعه المشاهد هو أن النائب إنصاف يتلقى تمويلاً من منظمة الإخوان المسلمين، وهو رد سطحي وربما قصد الفيلم أن يكون الرد سطحياً هكذا..!
6_يستمر الفيلم في تسطيح أو في الاستخفاف بعقول المشاهدين، حيث بدأ ديل كومستوك بشرح عملية الدخول لبيت انصاف مايو، ولم تظهر لقطة واحدة للهجوم تعزّز ما يقول ولو بشكل إعادة تمثيل مسرح العملية وهذا لا يمت للتوثيق بصلة..!
7_في زاوية الفيلم، ظهرت بعض اللقطات على أنها مأخوذة من الإعلام الحربي للحوثي، هل يعني هذا أنه مصدر موثوق لقناة عريقة مثل الـ BBC ؟
8_في الدقيقة 19 من زمن الفيلم ، ظهرت مقابلة مع ضيف وصف بأنه ضابط رفيع في الجيش اليمني كان يعمل مع الإمارات. أجريت المقابلة في اسطنبول بنظام سيلويت حتى لاتظهر ملامح هذا الضابط الرفيع، الذي قال إنه كان يرى مجموعة من الأجانب داخل المعسكر...!
هنا نقف قليلا ونتساءل : هل هناك دلالة مقصودة وراء تحديد مكان إقامته في اسطنبول، وتعمّد إخفاء وجهه وهويته ، وحصر جلّ تصريحه باتهام الإمارات ، فهل يكشف كل ذلك عن هويته السياسية المناوئة للإمارات ؟ وماهو الدليل الذي يدعم ما صرّح به ؟!
9_بث الفيلم نقلاً عن موقع (أخبار الآن) لقطات لأفراد بزيٍّ عسكري ، بدا أنهم يتدربون ، لا نعرف كمشاهدين من هم وأين هم ..؟! ما الذي تضيفه مثل هذه اللقطات المبتورة الغامضة؟ وما علاقتها بالفيلم الوثائقي الاستقصائي؟!
10_فيما يتعلق بمقابلة عيدروس الزبيدي، هل تعني صورة ناصر الشيبة بجانب الزبيدي أنه يعمل معه ؟! جميعنا نتصور أحيانا مع ناس عابرين لاتربطنا بهم أي علاقة..!
ألا يبدو واضحا للمشاهد أن إقحام مثل هذه الصورة، دليل على افتقار الفيلم لأي قرائن أو سبق صحفي استقصائي بأن دولة الإمارات تتعامل مع أشخاص من تنظيم القاعدة كما يدعون؟!
في رد الزبيدي على سؤال المراسلة عن مجموعة "سبير" قال لها هذي منظمة ؟!
وهذا دليل واضح أنه لا يعرفهم، ولو كان لهم وجود في عدن لكان المجلس الانتقالي أول من عرف بذلك كونه المسؤول عن امن عدن..!
11_ يعتبر الفيلم القوائم الورقية توثيقا، مع إنها لم تكن واضحة على الشاشة..! فهل يمكن اعتبار هذا التشويش والغموض تقنية جديدة في أفلام الـ BBC؟!
وهنا يبرز سؤال بديهي : أليس بالإمكان كتابة مثل هذه القوائم بسهولة؟!
12_في الدقيقة 35 تقريبا، نفى (إسحق) الذي يعتبر معززا لفكرة الفيلم الرئيسية، نفى وجود هدى الصراري على القائمة، وقبله نفى الزبيدي ذلك ، بينما يحاول الفيلم تأكيد ورود اسم الناشطة الحقوقية بالقائمة حتى ولو بتقنية الإقحام.
كيف لمجرد مقابلات مع ضيوف يجلسون على كرسي، يمارسون دور الحديث، أن تكون سبقا صحفيا واستقصاء يؤكد تورط الإمارات باغتيال ابن الحقوقية هدى الصراري ؟!
المثير للضحك والاستخفاف أن شهود العيان الذين اعتمد عليهم الفيلم لا وجود لهم إلا من خلال تعليق صوتي من الرواية..!
أما الضابط الرفيع فقد قال أيضا إن الإمارات استعانت بأشخاص من القاعدة ...!
ما اسهل الكلام وما أصعب التوثيق إذن..
فهل بهذه السذاجة سيكون الفيلم ذا مصداقية ومقنعا للمشاهد الباحث عن حقيقة تؤرق الشارع العدني واليمني بأكمله ؟!
13_تكتمل هذه المسرحية الاستقصائية ، بترتيب لقاء مفترض بين إسحق جيلمور وإنصاف مايو في لندن ، مسرحية تخلو مشاهدها من أي منطق، حيث ظهر انصاف مايو في الاستوديو ، ولم يظهر اسحق ، فقامت مراسلة القناة بالاتصال به لتعرف أين هو - وإذا به لم يركب الطائرة أصلا ، وإنما بعث برسالة كما قالت الراوية رسالة يعتذر بها عن الوصول إلى لندن ، رسالة لم نرها ..!
والمتعارف عليه أن يتم تحديد يوم التسجيل بعد تأكد منسقي الفيلم من حضور الضيفين- بحيث يتزامن وجودهما في ذات التوقيت ..
قبل أن يسدل الفيلم ستارة المسرح الوثائقي هذا ، تتمنى هدى الصراري أن "تتوصل فعلا لمن أطلق النار على ابنها حتى يعاقب ويأخد جزاته"
ألا ينفي هذا تأكيدها معرفة قاتل ابنها ؟!
لست أبالغ إذا ماقلت : إن الفيلم مناسب كنشاط لطلاب يدرسون الأفلام الوثائقية، حيث يطلب منهم كشف نقاط القصور الكثيرة فيه..!
أخيرا، من المعلوم أن الخط العريض المتفق عليه، هو وجود تنظيم القاعدة في الجنوب وأنه يتوسّع، وأن الامارات تدعم مكافحة الإرهاب بدعوة من الحكومة اليمنية ومن حلفائها الدوليين . وبهذا يكون قصور التوثيق للفيلم قد أخرج الإمارات العربية المتحدة من دائرة الإتهام، رغم أنها المتهم الرئيس طيلة مدة الفيلم.
بعد كل هذه الفجوات الواضحة والقصور المهني المفضوح في إنتاج وإخراج الفيلم، يحق لنا كمشاهدين، وكصناع أفلام ومخرجين أن نتساءل: إذا كانت هذه "حرب اليمن السرية" فما أسهل الحرب على المتفرجين..!