رحلتي إلى النـِّـيد) لعمر عبد الله العامري.. (3/3) عادات الزواج والملابس وحل النزاعات والأسلحة في جباء

(

تقديم مسعود عمشوش

يؤكد عمر العامري، مؤلف (رحلتي إلى النيد)، أن "العادات والتقاليد يتوارثها الأبناء من الأجداد، وتنتقل من جيل لآخر، فهي سجل الشعوب. والشعوب تحافظ دائما على موروثها، وتحاول توثيقه وتسجيله لأنه يمثل السِّجل التاريخي لتلك الجماعة أو القبيلة أو المجتمع عموماً". لهذا ليس مستغربا أن تتحول الرحلة التي قام بها عمر في مايو 2020، عند تحول كورونا إلى وباء عالمي، إلى ما يشبه البحث الميداني الهادف إلى جمع أكبر عدد ممكن من عادات أهل قف العوامر وتقاليدهم وأعرافهم. فهو كرّس خمسة فصول من كتابه (العادات والتقاليد والأعراف، حل المشكلات في جباء، طرق حفظ الأطعمة، عسل النحل، ومصطلحات عند أهل النجود) لتقديم عدد كبير من العادات الاجتماعية عند العوامر. ويؤكد أنه قد استقى معلوماته من أفواه بعض المسنين المستقرين في القف. وذكر أن "العم عمر البريك وأمثاله يملكون ذخيرة تاريخية ويجب الجلوس معهم، وتسجيل ما يمكن تسجيله حفاظا على الموروث التاريخي الذي إن أهمل ستنساه الأجيال".

وقد بدأ العامري بالحديث عن عادات الزواج في جباء، وتحديدا بعادة (التُّغُوَّى) التي كانت تعدُّ خطوة تمهيدية للزواج عند البدو، وقدمها على النحو الآتي: "هي عادة يمارسها العرب منذ القدم، إذْ يتعرف الشاب على الشابة وتجلس معه ويتحدثان في عشق عذري، ولا يلمسها لأنه إذا لمسها بيده "عتبها"، وعندئذ عليه أن يدفع مبالغ طائلة، أو بندقية، أو أغنام، ولا تقبل به المرأة أن يكون زوجاً لها، ويعدونه مخلا بالمروءة والشرف. والمرأة في هذا السن تكون عادة ترعى الغنم، ولا تجلس في الخيمة، بل تكون دائما مع أغنامها باحثة على الكلأ والمرعى؛ من هنا تجد المرأة الفرصة للخروج والتحدث مع من تقابل. والمرأة معها كل الحرية في اختيار شريك الحياة، والتعرف عليه وعلى سلوكه وخلقه، وقد يستمر التغوى أشهر عديدة، وقد ينتهي بالزواج، وقد لا يتفقان فيحصل التباعد بينهما. والتغوى وحديث الرجل مع المرأة، أو قل عنه العشق العذري عرفته العرب، بل وتفتخر به. وما مقدمات المعلقات السبع التي علقتها العرب على جدران الكعبة وكتابتها بماء من ذهب، وحديث المحب لمحبوبته وغزله الشريف مثل كثير وعزة، وجميل وبثينة وعنترة بن شداد وعبلة،... إلا خير دليل وشاهد على هذا السلوك العفيف والذي ظلت العرب في باديتها تمارسه إلى اليوم، وهو مناف للشرع. ونعود لواقعنا: إما في حالة الانسجام بين الاثنين فيقدم الشاب لخطبة الشابة ويتم الاتفاق على المهر وموعد الزواج.

وعادة يتم اختيار موعد الزواج في موسم الخصب حيث الكرفان ممتلئة بالماء والكلأ متوفر للماشية والجمال فيحصل العرس. وعادة يكون ثلاثة أيام مثل عادة أهل وادي حضرموت، حيث تتم عملية الحناء للعروسة في اليوم الأول من العرس. وفي الليلة الثانية تزف العروسة إلى موقع مهيأ لهما إما خيمة صغيرة أو غار وتزف العروسة من قبل النساء بالأهازيج والزغاريد وهكذا أو إطلاق الأعيرة النارية كناية عن الفرحة... وقديما لا يدخل العريس على زوجته في الأيام الأولى من العرس، بل ينتظران حتى ينفض الأقارب عن موقع العرس، ويصبح أهل العريس وأهل العروسة لوحدهم، فيهيأ مكان للعرسان ويتم ترتيبه سواء كان غاراً، أو جانب من صخرة كبيرة ونحو ذلك فيدخل العريس على عروسته، وقد أخبرني بذلك أكثر من واحد بهذه الطريقة. بساطة ما بعدها بساطة".

وبعد ذلك يتناول المؤلف عادة الرقص أو الشرح عند سكان القف، وقدمها قائلا: "قديما أي في الستينيات، كان الرقص مختلطاً، أي أن الرجال والنساء يرقصون في حلبة واحدة، تسمى: المدارة. وأشهر رقصاتهم هي المريكوز والهبيش والشرح. ولا تستخدم فيه الطبول، بل الرقص بالأيدي، ويتفاعل معه الجميع الكبار والصغار والرجال والنساء، بل حتى العروسة كانت تشارك فيه، وترقص مع الجميع وتُعطى لها المعونة "الطرح" حيث تستلمه في الحلبة أحد قريباتها. ويستمر الشرح حتى ساعات متأخرة من الليل، لكن تظل الحشمة الاحترام هما سادة الموقف. والمرأة تكون محجبة وعليها النقاب. هذا طبعا كما قلت في الستينيات وما قبلها. وذكرت هذا الأمانة النقل التاريخي. أما اليوم والحمد لله، وبعد أن انتشر الوعي الديني في الحواضر والبوادي، تم التفريق بين الرجال والنساء، سواء كان العرس في جباء أو في هضبتي وادي حضرموت؛ وأصبحت للنساء رقصاتهن الخاصة في معزل عن الرجال، وللرجال رقصاتهم الخاصة في معزل عن النساء. غير أنه في بعض الأماكن قد تستأجر بعض الراقصات عند بعض الأفراد ويرقص معها الرجال. وهذا ظل باقيا إلى اليوم هداهم الله؛ لأنه مخالف للسنة ونحن مأمورين بالحشمة والعفة".

ويذكر المؤلف الهدايا التي "يطلبها أهل العروسة بعد المهر، وبالذات لأخوال العروسة وخاصة الرجال منهم فتعطى ما يسمى "الملاحف" ومفردها ملحفة وهي قماش يلتحف به الرجل مثل الإزار لونه أسود. هذا بالنسبة لأخوال العروسة، قلّ عددهم أو كثر، وهذا ليس في جباء وحدها بل في النجود الثلاثة. وفي المقابل على الخال أن يقدم هدية للعروسة وهي إما خاتم من الذهب أو ملابس أو ذبيحة، هكذا كان العرف العام عند أهل بادية حضرموت سواء في الهضبة الشمالية أو الجنوبية".

وبالنسبة للملابس، يذكر العامري أن "الرجل في جبا كان يرتدي قديما (السواد)، وهي الملاحف، يعمل أحدها إزارا يتزر به ويجعل الأخرى على كتفه، ويلف حول رأسه العمه. وقد يلبس مقدمهم العقال الأسود أو الذهبي كي يتميز عن بقية أفراد القبيلة".

أما المرأة فترتدي عادة ملابس فضفاضة كي تسترها، وهي محتشمة، فالأكمام واسعة. والثوب يسمونه القميص ويكون عادة غليظ أي ليس بالشفاف وذلك للحشمة، ويكون لونه عادة أسود ويسمونه المعلوم، ويُفصّل على شكل ذيل من الخلف وقدمه من الأمام، أي أنه قصير إلى دون نصف الساق في الأمام وذيل في الخلف. ويقال إن الذيل هذا فرض على نساء حضرموت وكذلك اللون الأسود للرجال والنساء حين حصلت الحروب بين عبد الرحمن ابن عطية والأباضية... وقد ظل القميص إلى عصرنا الحاضر وفيه الذيل، وأصبح رمزا ترتديه المرأة البدوية والحضرية في مدن وبوادي ونجود حضرموت".

ثم يقدم المؤلف عادة السلاح في القف، ويؤكد أن "الأسلحة تُعد في نظر البادية من الزينة ومكملة للرجولة والشخصية؛ فكانوا قديما يحملون على أكتافهم بندقية، أو فتيلة مثل غيرهم من قبائل حضرموت... والنوع الثاني من الأسلحة الشائعة الاستخدام في النجود وكل بوادي وحواضر حضرموت هو السلاح الأبيض وهي: الجنابي الحضرمية، التي تعد من أشهر الجنابي. وقد تفنن فيها الصناع الحضارم، وجعلوا ممسكها قرن الزرافة، وطعموها بالذهب والفضة وعملوا لها الجفير والحزام الجلدي المميز، والمطعم بألوان زاهية من الحديد. ولعل أشهر أنواع الجنابي الحضرمية النوع المسمى القبلي ورأسها من قرن الزرافة. والنوع الثاني المسمى القصيبي، ويأتي من الهند مع تطعيمه في حضرموت. والنوع الثالث المسمى القديمي. ومن السلاح الأبيض أيضا توجد الغدارة والنمشة وكذلك السكاكين وكل هذه الأسلحة كان يتمنطق بها سكان الجزيرة العربية.. أما السيوف فكان سكان النجود قليلا ما يستخدمونها، باستثناء سلاطينهم من آل كثير".

ومن عادات سكان قبائل وكل سكان النجود البوادي والحضر التي يقدمها المؤلف في كتابه: الكرم، وهي عادة وصفة حميدة وميزة يمتاز بها العرب جميعا، فتجد أهل النجود يستقبلون الضيف بحفاوة بالغة سواء الاستضافة والترحاب، فيقدم له اللبن والقهوة والتمر وقد يذبح له الذبيحة".

ويشير العامري إلى أن القنص يعد الهواية المفضلة لدى الكثير من سكان النجود، في والحاضر. وقنيص الوعل الذين يسمونه تيس الجبل هو الأمنية الأولى للرجل في القف. ويذكر أن من الحيوانات التي يقتنصونها الظباء التي تتردد على مصادر المياه والكرفان والنباتات البرية في النجود.

ويقدم العامري في كتابه (رحلتي إلى النيد) بعض طرق حل النزاعات بين سكان النيد، ويذكر أنهم يعتمدون في حل مشاكلهم على نظام عربي قديم وهو: القعيدة. ووفق هذه العادة "يقعد المتخاصمون بوجود أفراد من الأقارب وكبار السن، فيطرح الطرف الأول مشكلته، ويحاول أن يثبت حقه بكل ما أوتي من حنكة وخبرة أمام القعيدة. وبعد ذلك يتحدث الطرف الثاني باذلا جهده ومراوغته للدفاع عن نفسه وعن قضيته. وهذا يعني أنها محكمة منعقدة، والقاضي فيها هو الأكبر سنا، أو الشيخ أو من يرونه من الحضور مناسبا للحكم. وفي حالة الفشل أو إصرار أحد الأطراف على رأيه يطلب أحد الحاضرين من الطرفين اللجوء إلى شخص ثالث محايد، سواء إن كان من القبيلة أو من خارجها.

وهناك عادة (العدالة) وهي عربون يطلبه الشخص الحكم، وهي إما أن تكون بندقية أو جنابي أو سيارة، وتعتمد العدالة على حجم المشكلة وكبرها أو خطورتها، وتسمى بالعدالة المثقلة خاصة في حالات الدماء أو القتل أو السطو أو القدح في الشرف أو غيره من المشكلات. ويرى العامري أن هذا النوع من الحلول لا يزال معمولا به إلى اليوم خاصة في ظل ضعف المحاكم، ووسائل التقاضي الرسمية ويسمى هذا الأسلوب بالأحكام القبلية. وبعض هذه الأحكام تكون جائزة، وبعضها لا يتفق مع مثل أن يطلب المحكم مجموعة حلاقة على الرغم قوانين الأحوال المدنية، أنهم لم يشهدوا حيثيات القضية ولكنهم يحلفون على قول صاحبهم، هكذا جرى العرف عندهم.

ويذكر المؤلف كذلك عادة (النقد) في حل المشاكل، ويقول عنها "وهي مرحلة متأخرة من الحلول ويلجئون لها في حالة أن أحد المتخاصمين لم يقتنع بالحكم أو أنه وجد فيه غبنا أو ظلما عليه فيلجأ إلى النقد الذي يشبه الاستئناف، ويتم النقد عادة عند شخص صاحب خبرة في مثل هذه الأمور، ويكون عادة في كل قبيلة أفراد متخصصون في النقد، لهم وجاهتهم واحترامهم. وفي وادي حضرموت تلجأ القبائل إلى مقدم العوامر، أو الحكم بن ثابت النهدي، أو غيره من شيوخ القبائل المتعارف عليهم. هكذا تحل المشكلات في جبا وفي معظم النجود وغيرها من المناطق القبلية.

وقد يلجأ الجميع إلى الدولة حيث القوانين والدساتير والقضاء عبر المحاكم، وأهل جبا يتجهون لأقرب محكمة وهي إما في تريم أو سيئون. لكن الصلح هو سيد الأحكام".

مع ذلك يؤكد المؤلف أن معظم أهل البادية يفضلون الأحكام القبلية على أحكام القضاة والمحاكم وذلك أن هذا النوع من التقاضي لا تدخله الواسطة ولا الرشوة ولا المحسوبية، ويكون سريعاً ولا يأخذ أكثر من نصف شهر. ومعظم الأحكام تكون متعارف عليها بل وتكاد أن تكون مكررة، ويسمونها السوارح، أي أنها قد سرحت بها العادة والأعراف والتقاليد.