عينات الحاضرة الروحية لحضرموت ويافع
مسعود عمشوش
وفقا لما جاء في بعض النصوص التي كتبت باللغة الحضرمية العربية الجنوبية القديمة (إحدى لغات نقوش المسند)، والتي عثر عليها مؤخرا، تعد بلدة عينات من أهم حواضر حضرموت القديمة. وكانت عينات القديمة تقع في مكان يسمى اليوم (كودة آل شرية)، وسط (وادي بوحة) في حضن جبل يسمى جبل شريان، يقع بين شعب الأصف من الناحية الجنوبية الشرقية لموقع عينات الحالية وبين التلال الخضراء من جهة الغرب.
ويقال إن آل كثير هم أول من اختار الاستقرار في عينات، سنة 629 هـ، حينما قدمت أعداد منهم من أسفل وادي حضرموت وشيّدوا لهم، شرقي المدينة القديمة وتحديدا في المكان الذي يعرف حالياً بدقم البلاد، بيوتا وحصوناً.
ومثل غيرها من المدن الحضرمية تضررت عينات من الاضطرابات والحروب بين القبائل وغارات الزيود من اليمن. وقد تقلصت تلك الفوضى بعد مجيء أبي بكر بن سالم إليها في القرن العاشر الهجري، قادما من قرية اللسك التي جاء إليها من مسقط رأسه تريم. وشيّد أبو بكر بن سالم في الجزء الجديد من عينات مسجده سنة 946هـ، وأصبح مصلحا سياسيا واجتماعيا، وقبلت به القبائل البدوية في شرقي حضرموت منصبا ومرجعية روحية لها. وبنى كثيرٌ من الناس بيوتا حول مسجده. وظهرت عينات الجديدة التي أصبحت حوطة آمنة، يلجأ إليها كل من أراد الابتعاد عن الفتن والصراعات، وحظيت بشهرة كبيرة داخل حضرموت وخارجها. وقد كتب المستشرق شليفر في دائرة المعارف الإسلامية أنها "من أهم الحوط في جنوب الجزيرة العرب وقبلت القبائل البدوية بأبي بكر بن سالم منصبا ومرجعية روحية لها".
وفي 18 مارس 2024 كتب محرر شبوة برس "يُذّكر أنه بعد الاجتياح الزيدي لحضرموت منذ أكثر من خمسة قرون لجأ السلطان الكثيري إلى المنصب الحبيب أبي بكر بن سالم وشكى له عجزه وضعف قبيلته وقوّته على مواجهة الغزو الزيدي وطلب المشورة والنصح في كيفية الحشد ومواجهة الهجمة الزيدية وإجلائهم عن وادي حضرموت، فرد عليه المنصب: عليك التوجه إلى قبائل يافع فهم الأقدر والأقوى والأشرس في مواجهة الزيود وسأعطيك كتاب لهم يأتون معك لمحاربة الزيدي. فردّ السلطان الكثيري بمثل مشهور في حضرموت وشبوة الحالية (الوصايا ما تجيب الأبل). فقال المنصب أذاً لنذهب سويا إلى يافع وسنحضرهم معا. وهو ما تم فعلا. فحضرت يافع إلى حضرموت بقوة عسكرية قدرّت بـ 6000 مقاتل وأوقفت المد الزيدي. وبدأ رجال يافع بالعودة إلى ديارهم. ويبدو أن السلطان الكثيري شعر بالخطر من تسرب مقاتلي يافع خارج سلطنته فذهب إلى المنصب أبي بكر بن سالم وأبدا له قلقه ورغبته في بقاء رجال يافع في حضرموت للدفاع عنها. فقال له المنصب: إذا ترغب في بقائهم فعليك [ربطهم، أي] توطينهم وتزويجهم وتمليكهم أرض يرتبطون بها ويدافعون عنها دفاع المالك المستقر. وهو ما تمّ فعلا فعمل الكثيري على تطبيق هذه النصيحة وأمن بذلك شر غزوات أجنبية محتملة على حضرموت". وانصهر أبناء يافع [التلد] مع قبائل حضرموت وتصاهروا معهم وأصبحوا من الركائز الأساسية في حضرموت وانتشروا في جميع اجزائها الوادي والصحراء والساحل الى حدود المهرة. وتمكن بعضهم من تأسيس امارات وسلطنات مستقلة".
وفي دراسة موجزة نشرها د. علي صالح الخلاقي في مجلة حضرموت الثقافية العدد 32، بعنوان (الواقف في عينات كالواقف في عرفات، العلاقات بين يافع وعينات في ضوء وثيقة تاريخية) كتب الخلاقي: "برز التأثير الروحي الكبير لسادة حضرموت، ولمناصب عينات خاصة، في مناطق يافع والجنوب منذ عهد الشيخ أبي بكر بن سالم بن عبدالله بن عبدالرحمن السقاف العلوي (919 – 992هـ)، الذي نَصَّب – قبل أن تدركه الوفاة – الشيخ العلامة علي بن أحمد هرهرة مصلحًا ومرشدًا دينيًا في يافع العليا، وكان رجل دين مشهور، ذا علم وحلم، وهو مؤسس الأسرة الهرهرية، ثم السلطنة التي سُميت باسمهم فيما بعد، واتخذت من (حوطة المحجبة) عاصمة لها في يافع بني مالك. وفي سنة 1027هـ وصل الحسين بن الشيخ أبي بكر إلى يافع، في طريق عودته من الحرمين الشريفين، مرشدًا وداعيًا إلى الله، فأحبَّتْه قبائل يافع محبةً عظيمةً، واتخذوه مرجعًا لكثير من مشاكلهم، وقد أسس مسجدًا في قرية (عنتر)، واشترى من ماله الخاص كثيرًا من الأراضي المتنازع عليها، فأوقفها على كثير من أوجه البر وفض الخصومات. ومنذ ذلك الحين حظي الشيخ أبوبكر بن سالم، ثم نجلُه الحسين بمكانة خاصة من التجِلَّة والتعظيم في يافع، واعتبروهما من أولياء الله الصالحين، وزاد من الترويج لتلك المكانة وصول أعداد من أقاربهما السادة من بني هاشم، ممن انتشروا في مناطق يافع بناءً على طلب من قبائلها، ليعلِّموا أهلها، ويصلحوا ذات بينهم عند نشوب النزاعات والفتن القَبَلية، ويتولوا القيام بالأعمال الشرعية، وجمع العشور والنذور والصدقات المخصَّصة لهما ولذريتهما من الأوقاف، والتي تصل إلى عينات دون انقطاع كواجب ديني مُلزم".
وبينما ظلت عينات ومناصبها من آل الشيخ أبي بكر بن سالم محافظين على مساندتهم ليافع مقابل ضمان الولاء لهم في يافع نفسها، فقد نشب صراع دام بين آل كثير والعلويين الآخرين من جهة وفخائذ يافع في حضرموت من جهة أخرى وذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما تمكنت السلطنة القعيطية من حصر السلطنة الكثيرية في جزء محدود جدا من وادي حضرموت وعِدِم. والأرجح أن ذلك قد تمّ بتشجيع من بريطانيا، التي لم تكن تثق تماما بمواقف آل كثير وسادة تريم وسيؤن. فابن عبيد الله لم يخف دعم سادة سيؤن للأتراك في الحرب العالمية الأولى ضد البريطانيين الذين لمسوا كذلك ترحيب السلطان علي بن منصور الكثيري بما اقترحه عليه عبد الله فيلبي سنة 1936 بشأن التقارب بينه وبين الملك عبد العزيز بن سعود وموافقته على شق طريق بري بين حضرموت والحجاز. (انظر كتابنا: المستكشف هاري سانت جون فيلبي وزيارته لحضرموت) ومن المعلوم أن انجرامز وأبا بكر بن شيخ الكاف قد اضطرا لمغادرة سيؤن وتريم واللجوء إلى عينات القعيطية بعد تذمر سكان السلطنة الكثيرية من الحالة الاقتصادية في الوادي في بداية الحرب العالمية الثانية وربطهم ذلك بمعاهدة الاستشارة ووجود انجرامز ومساعده أبي بكر الكاف.
جغرافيا، تبعد عينات عن تريم 15 كيلومترا فقط، وفي الطريق بينهما نجد قرى باعطير والقوز واللسك وقاهر والقرية. وتتقسم عينات الى عدة أحياء أو حارات، أهمها: حارة الحوطة وحارة البلاد، والرملة والنويدرة والقوز والنخر وبانجار والعروش. ومثل جميع مدن حضرموت شهدت عينات توسعا عمرانيا وتمددت حاراتها لتصل إلى أطراف الوادي جنوبا، وشمالا وصلت الأحياء إلى مسيال فرع وادي عدم، وشعب بديده من جهة الغرب.
واليوم تشتهر عينات بمنازلها الجميلة المحاطة بالبساتين وأشجار النخيل التي تعتمد على سيول الأمطار. وقد أهتم السكان الذين يعمل معظمهم في الزراعة ببناء قنوات الري والسدود الترابية للاستفادة من مياه السيول، منها سد الخور وسد آل حمدون وسد العطاس وسد الحسين وسد الذئب وسد آل إسماعيل وسد آل الحامد وسد آل بكري. ومثل غيرهم من سكان حضرموت أخذ سكان عينات يبتعدون عن الزراعة، ومنهم يمارس التجارة أو البناء ومنهم من انتقل إلى تريم أو سيؤن أو هاجر للخارج.
لكن أهم ما تشتهر به عينات اليوم هو قبابها السبع ومساجدها، مثل مسجد الشيخ أبي بكر بن سالم بحوطة عينات وقد أسسه كما ذكرنا الشيخ أبي بكر في سنة 946هـ، والمسجد الشرقي والمسجد القبلي ومسجد الهدى ومسجد الزاهر ومسجد خنيدره ومسجد المحضار ومسجد علي بن أحمد الذي أسسه السيد علي بن أحمد بن علي بن سالم وتتميز منارته بشكلها المخروطي.
وفي منتصف شهر شعبان من كل عام يتوقف زوار قبر نبي الله هود عند عودتهم لمشاهدة تلك القباب والمساجد، وربما لشراء بعض المسارف والقفف والمكانس المصنوعة من سعف نخيل عينات المباركة.
