من يجرؤ على مراجعة تاريخ الجنوب؟

  



د. حسين لقور بن عيدان

في تجارب الشعوب، لا تنهض الشعوب إلا حين تمتلك شجاعة المراجعة، فالمراجعة السياسية ليست فعل ندمٍ عابر، بل هي وعيٌ نقديّ ومسؤولية تاريخية تجاه الوطن ومستقبله. وهي في جوهرها لحظة مصارحة مع الذات قبل أن تكون محاسبة للآخرين، لأنّ الشعوب التي تخشى الاعتراف بأخطائها محكومٌ عليها بتكرارها.

فضيلة الرجوع عن الخطأ تفقد معناها عندما تتحول المراجعة إلى ميزان للمقارنة بين مسؤوليتنا عن الخطأ ومسؤولية غيرنا عنه. فحينها تنقلب المراجعة إلى تبرير، ويضيع جوهرها الأخلاقي، إذ تُصبح دفاعًا عن الذات لا بحثًا عن الحقيقة.

منذ عام 1967م، مرّ الجنوب العربي بمراحل سياسية متعاقبة، حملت طموحات كبيرة لكنها أيضًا أنتجت صراعات دامية وأخطاء كارثية. وما زال بيننا من عاش تلك التجارب وقادها من الصفوف الأولى والثانية والثالثة أحياء، غير أنّ كثيرًا منهم لم يُبدِ حتى اليوم أي استعداد حقيقي للمراجعة، وكأنّ الماضي كان مجرد سوء فهمٍ من الآخرين لا مسؤولية ذاتية يتحملونها.

وهنا تكمن المعضلة الأخلاقية والسياسية؛ فالإنكار والمكابرة ليسا من صفات القادة، بل من أعراض الإفلاس الفكري والأخلاقي.

إنّ ما لحق بشعب الجنوب العربي من مآسٍ لم يكن نتاج صراع واحد أو حدث محدد، بل نتيجة ثقافة سياسية مأزومة جعلت الصراع سلوكًا سياسيًا وطريقة عمل.

ولذلك فإنّ المراجعة الحقيقية لا تقتصر على استذكار الوقائع أو إعادة سرد التاريخ موجود في أرشيف وسائل الإعلام، بل تتطلب تحولًا في الوعي السياسي نفسه، بحيث يتجاوز عقلية التخوين للآخرين والتبرير للذات إلى بناء ثقافة جديدة تقوم على الوحدة الوطنية الجنوبية، السلم الاجتماعي، والتسامح، وإدارة الاختلاف بالحوار لا بالسلاح.

لقد أثبتت العقود الماضية أن السلاح وحده لا يصنع دولة، وأنّ التحرير لا يكتمل إلا حين يتحرر الوعي من ثقافة العنف ومن ذهنية "كل من يخالفني هو عدو". فالمجتمع الجنوبي بحاجة اليوم إلى تحصين ذاته من تكرار أخطاء الأمس، وتربية أجياله على قيمة النقد الذاتي بدلاً من تمجيد الماضي بلا مساءلة.

وإذا ما استمر الامتناع عن المراجعات الجذرية، فسنبقى ندور في دائرة مغلقة، تعيد إنتاج الانقسام بأشخاص آخرين وتسميات وشعارات جديدة. أمّا المراجعة الصادقة، فهي التي تنظر إلى التجربة بكل ما فيها من وجعٍ ودروس، لتصنع منها وعيًا جديدًا لا يخشى الاعتراف، بل يجعله طريقًا للإصلاح.

إنّ شعب الجنوب العربي، الذي دفع ثمن الصراعات من دمه ومستقبله، يستحق نخبة سياسية تملك شجاعة النقد والاعتراف، وتضع مصالح الناس فوق المصالح الشخصية. فالمستقبل لا يصنعه المنكرون لخطاياهم، بل أولئك الذين يواجهونها بصدقٍ ليؤسسوا لمرحلة مختلفة، أكثر وعيًا وعدلًا وإنسانية.