(بي بي سي) لا تكذب!
سئل وينستون تشرشل عن مصداقية مؤسسة بي بي سي البريطانية العريقة والمملوكة للحكومة فقال: "بي بي سي لا تكذب، لكنها أبدا لا تقول الحقيقة".
الرجل الذي يعد منقذ المملكة المتحدة في الحرب العالمية وأشهر سياسييها على الإطلاق أدرى بشعاب بلاده ودهاليز الأمور فيها.
طل علينا الوجه العربي لقناة "بي بي سي" قبل يومين بما أسماه تحقيقا استقصائيا امتد لـ42 دقيقة، تمحور حول زعم غريب يصعب تصديقه، إذ يقول إن الإمارات استأجرت ذات يوم محاربين أمريكيين محترفين (مرتزقة) لتنفيذ عمليات اغتيال في المناطق التي حررها الجيش الإماراتي والمقاومة الجنوبية عام 2015 في اليمن.
وجه العجب في سطحية الفكرة، فمن يُمكن أن يصدق أن أحدا يحتاج لاستجلاب محاربين من الجانب الآخر من العالم لقتل أناس عاديين في بلد يشهد انفلاتا تاما وحربا واسعة، وإلى مدينة كل قوة فيها هي حليفته وكانت تسيطر عليها القوات الإماراتية بشكل كامل في ذلك الوقت إلى جانب حلفائها في المقاومة الجنوبية.
معدة التحقيق فتاة يمنية ذات هوى حوثي، تبعا لوالدها الدبلوماسي الذي درس وتربى في طهران مع مجموعة ممن تسربوا عبر المخابرات الإيرانية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي إلى بلاد فارس تمهيدا لإنشاء المليشيات التي تسيطر على صنعاء اليوم، وإلى جانبها ناشط معروف في التنظيم الدولي للإخوان ظهر كأنه يوجه مسار التحقيق ويظهر في كل مكان تذهب إليه معدته أكثر مما هو ضيف عادي.
قد يتساءل أي مشاهد كيف استطاع حفنة من صبيان الإخوان وحوثيي اليمن استغلال القناة البريطانية بهذه الطريقة السخيفة؟ وحقيقة الأمر أنهم لم يكونوا ليستطيعوا تمرير عمل رديء من كل النواحي وبمحتوى ركيك إلى هذه الدرجة ما لم يكن لبريطانيا وأذرعها هدف من نوع ما.
لنتمعن في الآتي:
- تم إعداد محتوى البرنامج بين عامي 2019-2020 قبل إدخال بعض الإضافات مؤخرا، ما يعني 4 سنوات كان فيها العمل معلبا وجاهزا إلى ساعة احتياج، فلماذا ينشر في هذا التوقيت؟ بعد رفض الإمارات والسعودية مشاركة بريطانيا وأمريكا في تحالف حارس الازدهار.
- نقب معدو البرنامج يقودهم وجه إخواني معروف هو الأخ براء شيبان المقيم في لندن لسنين طويلة فلم يجدوا شيئا يذكر، فاستخدموا ناشطة إخوانية أيضا معروفة الوجه والانتماء في اليمن، هي هدى الصراري وأنا أعرفها كما أعرف العزيز براء معرفة شخصية وعن قرب.
دأبت الصراري -للأسف- على الاستنفاع بدم ابنها الذي قتل أثناء عراك بين شباب في الحي الذي يسكنه بعدن قبل سنين وقصته معروفة لكل أهل عدن قبل أن تستقطبها أذرع الإخوان أثناء أزمة قطر لتؤجر دموعها في المحافل الدولية، بينما تستفيد هي من ذلك لطلب لجوء في أوروبا وهو ما فعلته، حيث تعيش الآن في سويسرا.
- لنأت مرة أخرى إلى قصة المرتزقة الأمريكيين، وهو الجزء السخيف المضحك في التحقيق، والذي أصبح مثار سخرية الجميع، إذ لا يصح لعاقل أن يصدق أن أي جهة أو حتى شخص يريد تنفيذ اغتيال في بلد يشهد حربا وانفلاتا والجميع فيه مسلح أن يستورد مقاتلين محترفين من هوليوود، ليقتلوا مسؤولا حزبيا صغيرا لم يكن له أي دور ولا أهمية، وقد قال هو نفسه في نفس البرنامج إنه سمع من أحد أصدقائه أن هناك من يريد اغتياله، وهذا يعني أنه لم يتعرض لأي محاولة أصلا، وما يسوقه التحقيق عن انفجار وقع في منطقة كريتر عام 2017 على أنه استهداف لذلك الشخص هو في الحقيقة تفجير سيارة مفخخة استهدف نقطة عسكرية لقوات الأمن الحليفة للإمارات، على بعد أكثر من 800 متر من منزل الشخص المذكور، ثم هل يعقل أن فرقة مرتزقة هوليوودية محترقة تفشل بهذه الطريقة العجيبة في اغتيال مواطن غير مسلح أو عليه حراسة؟ معقول؟
- في تلك الفترة التي يتناولها تحقيق الشيباني والصراري والمقحفي (الأول والثانية من نشطاء تنظيم الإخوان والثالثة حوثية الميول، ولا يمكن أن نعتبر ذلك مصادفة) كانت الاغتيالات تحدث كل يوم تقريبا، وقد طالت قادة ونشطاء من الحراك الجنوبي بشكل رئيسي، لكن الشيباني والصراري والمقحفي صوروا موجة الاغتيالات تلك على أنها كانت موجهة ضد حزب الإصلاح، وهذا كذب فاضح ولكي يجملوا قبح زيفهم حاولوا تحريف رواية اغتيال الشهيد القائد أحمد الإدريسي فزيفوا بوقاحة كل تفاصيلها، ذاكرين أن الشهيد استهدف لأنه رفض تسليم ميناء عدن وقتها، بينما العكس تماما هو ما حدث، حيث سلم الشهيد الميناء رسميا وأنا كنت حاضرا وشاهدا، رغم تلقيه تهديدا واضحا من المدعو حلمي الزنجي الذي كان يسيطر على جزء من الميناء، وهو شخص معروف بانتمائه للقاعدة وقد استهدف الشهيد أحمد بعد ساعات من اجتماع توقيع محضر تسليم الميناء، والجميع يعرفون ذلك يقينا.
- السؤال الرئيسي: هل يحتاج من يريد اغتيال أحد في تلك الفترة إلى محاربين أمريكيين من أفلام هوليوود، في بلد يشهد حربا وانفلاتا كاملا فكيف إذا كان هذا الطرف هو التحالف الذي كان يملك قوات عسكرية في عدن ويقود ويدرب مئات آلاف الشباب الذين حرروا بلادهم من الحوثي ثم من تنظيمات الإرهاب الأخرى مثل القاعدة وداعش؟
ولدحض كل ذلك فإن الخلية الإرهابية التي دبرت تلك الاغتيالات قد تم القبض على عناصرها قبل عامين، وهم يخضعون حاليا للمحاكمة في محكمة عدن الجزائية، وقريبا تصدر الأحكام بحقهم، وقد نشرنا اعترافات بالصوت والصورة لقائد الخلية التي تبين أنها تتبع الحوثيين، فهل من الممكن أن نعتقد أن كل ذلك غفل عنه معدو تحقيق "بي بي سي" الهزيل عن غير عمد بعد 5 سنوات قضوها في تأليف التحقيق سيئ الصيت والنوايا؟