توثيق الغربيين للصناعات الحرفية في شبام

مسعود عمشوش

تكتسب كتابات الأجانب عن شبام وحضرموت بشكل عام أهمية توثيقية كبيرة، إذ أنها تتناول جوانب تاريخية وجغرافية واجتماعية واقتصادية خاصة ببلادنا، ولم تنل اهتماما يذكر من قبل المؤرخين المحليين، لا سيما تلك المتعلقة بحياة بدو الصحراء والمرأة والمعتقدات الشعبية التي كانت سائدة في حضرموت منذ القرن أقدم العصور. 

وقد تركز اهتمام عدد من الرحالة الغربيين على تقديم بعض الصناعات الحرفية، كصناعة صبغة النيلة التي ظلت مستخدمة بكثرة في معظم مناطق الجنوب حتى خمسينيات القرن العشرين، وصناعة حبال الليف، وصناعة النورة (الجير الأبيض).

فالرحالة الألماني ليو هيرش، الذي زار شبام في صيف 1893 ضمّن كتابه (رحلة إلى جنوب الجزيرة العربية: المهرة وحضرموت، 1897) وصفا موجزا لصناعة صبغة النيلة قائلا "تمتد خارج أسوار مدينة شبام، في جهة الشرق، غابات نخيل كبيرة، وهي ملكية خاصة. وهناك أيضا مزرعة كبيرة نسبياً لإنتاج صبغة النيلة التي يصنعونها من نبتة النيلة، الذي تُطحن أوراقه المجففة، ثمّ يسكب عليها الماء بعد وضعها في أوعية (أزيار) كبيرة من الفخار، قبل تجفيفها بأشعة الشمس".

أما البريطانيان ثيودور ومابيل بنت، اللذان وصلا إلى شبام سنة 1895، فقد ضمنا كتابهما (الجنوب العربي Southern Arabia، عام 1900) تقديما مفصلا لصناعة صبغة النيلة وحبال الليف، قالا فيه: "تمنحنا مدينة شبام، المحاطة بسور وقلاع وأبراج مراقبة مشيدة من طوب اللبن، مظهرا متميزا ومتناغما. وتبدو منازل الأثرياء العالية والمطلية باللون الأبيض في الجزء العلوي فقط، كأنها كعكة كبيرة ومستديرة وضع فوقها السكر. وخارج الأسوار توجد هناك بعض الصناعات الحرفية، أهمها تحضير صبغة النيلة من خلال تجفيف أوراق إحدى الشجيرات الصغيرة في الشمس وسحقها، ثم وضعها في جرار (زيار) ضخمة مملوءة بالماء. في صباح اليوم التالي يتم تحريكها بعيدان طويلة، ويستخرج منها خليط مزبد أزرق داكن؛ ثم ينخل لتصفيته وتجفيفه فوق قطع قماشية. وتشترى صبغة النيلة تلك، وفي المنزل تخلط مع التمر والملح. وتضاف أربعة أرطال من هذا المادة إلى جالون من الماء لتحضير الصبغة المستخدمة للملابس. ويتم استخدام الجزء الأفضل منها لصبغة الملابس عن طريق فرشها فوق الصخور وضربها بمطارق خشبية. وأصبح هذا الصوت المنبعث من الضرب لغزا كبيرا بالنسبة لنا فتتبعناه حتى وصلنا إلى مصدره واكتشفنا ما كان عليه الأمر. ويقوم السكان كذلك بتجفيف أوراق نبات آخر يسمى (خراد) ويسحقونها ويصنعوا منها عجينة لها لون البازلاء الخضراء ويستخدمونها لتلميع الجلد.

والصناعة الأخرى التي لاحظنا وجودها هي صناعة الحبال من ألياف النخيل الذي ينمو في الوديان الضيقة. تترك الألياف أولا لتنقع في الماء، ثم تضرب حتى تنفصل بعضها عن بعض. وهناك أيضا صناعة الجير (النورة)، وقد لفت انتباهي منظر الرجال وهم يضربون الجير المحروق بالعصي الطويلة بينما هم يرددون أغاني غريبة بشكل لطيف ومتناغم مع ضربات عصيهم. ودخلنا المدينة بخطوات صاعدة من خلال البوابة، تاركين خلفنا بعض الآبار وأماكن صناعة النيلة، وبعض الأوعية الي وضعوا فيها الوزيف (الأسماك الصغيرة المجففة) التي تأكلها الإبل، لتقطير ما علق بها من زيت".

وكان المستعرب الهولندي فان دن بيرخ قد نشر سنة 1886 كتابه الرائد عن (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي) باللغة الفرنسية، وقمت بترجمته قبل خمس سنوات. وقد أشار فيه إلى الصناعات الحرفية التي كانت تمارس حينذاك في حضرموت بشكل عام، قائلا: "في حضرموت ليس هناك صناعات مهمة، وليست المصانع هي التي تنعدم فيها فقط، بل تغيب عنها كذلك الورش والمعامل المهمة. ولا يستخدم الحرفيون إلا مساعدا أو مساعدين، من العبيد أو الخدم. ولا تزال حرفة الغزل والنسيج (الحياكة) تكتسب أهمية كبيرة اليوم، على الرغم من أنها تمارس في البيوت فقط. ومع ذلك فقد بدأت في التقهقر بسبب استيراد المنسوجات القطنية الأوروبية الرخيصة. وكانت تريم مركز حرفة الحياكة إلى وقت قريب. وأكد لي كثير من الناس أنهم يتذكرون الزمن الذي كان كل منزل في المدينة يمتلك مِحْوَكا ودولاب حياكة. وهناك أيضا الحرفتان المكملتان للحياكة: تحضير النيلة، وصباغة المنسوجات. وإلى جانب الحويك، هناك في حضرموت، (النساجون)، والحدادون، والنجارون، والصاغة، والبنائيون، والخياطون، والخزافون".