بين جيل السبعينيات وجيل الألفية
مسعود عمشوش
في الغالب، يزعم كل جيل، في فترة شبابه، أنه يواجه تحديات كثيرة لم تواجهها الأجيال التي سبقته، وذلك على مستوى الحياة بشكل عام وفي مستوى الحصول على فرص التأهيل والعمل. وأصبح من المسلم به أن نمط الحياة والعمل يخضع لتغييرات عميقة، محكومة ومتأثرة بقيم وتصورات وتوقعات تختلف من جيل إلى جيل. ولكي نستطيع أن نفهم سلوك وتصرفات أبنائنا الذين ينتمون لجيل هذه الألفية الثالثة، الذين تفتحت أعينهم على الأزمات والتقهقر العربي في العراق وغيرها من البلاد العربية، علينا أولا أن نفهم الاختلافات الأساسية التي يتميز بها كل جيل أو مجموعة ديموغرافية، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالعمل؛ فنحن جيل سبعينيات القرن الماضي وما قبله، نميل كثيرا إلى وصف شباب هذا الجيل الأخير بأنهم "كسالى" وغير صبورين ولا يحسنون الكتابة باليد، ويصرفون كثيرا من المال عند الحلاقين وفي شراء أحدث الجوالات وأجهزة التصوير والملابس، وفي الجلسات في الكافيهات. وبالمقابل نسينا تماما خنفستنا وزنانيرنا وتهافتنا على توسيع فتحات الشارلستون.
وفي الواقع علينا التمعن والتأكد من أن سلوك شبابنا اليوم يرتبط بالتغييرات في متطلبات العصر وقيمه، وبمتطلبات سوق العمل المتغير نفسه. فهؤلاء الشباب هم حاملو لواء ثورة صامتة تسعى إلى ابتكار طريقة جديدة للعمل، تركز على الاعتراف والحرية والتوازن المتناغم بين العمل والحياة، وكلها قيم لم يعرها جيلنا كثيرا من الاهتمام.
ما هي يا تري أهم الاختلافات بيننا وبينهم؟ ترتبط التغييرات في عالم العمل ارتباطا وثيقا بقيم وخبرات وتوقعات كل جيل؛ فجيلنا، نحن الذين ولدنا بين عامي 1955 و1966، تمتع بشكل عام بالاستقرار الوظيفي والولاء للعمل والوظيفة، وغالبا ما أعطينا الأولوية للأمن الوظيفي. وظل معظمنا مخلصين جدا لوظائفهم ومؤسساتهم، التي كانت في الغالب حكومية بعد أن تم تأميم معظم مؤسسات القطاع الخاص في بلادنا، وظل كثير منا ما بين 10 و 20 عاما وربما العمر كله في الوظيفة نفسها. ويجب القول إنه في ذلك الوقت، كانت الفرص الوظيفية سهلة وأكثر استقرارا، ولم تبخل الحكومة والمؤسسات والشركات بمنح كثير من المزايا الداخلية. ولم يكن من غير المألوف أن يكون لديك سيارة شركة أو خطط معاشات تقاعدية مغرية أو حتى عروض حقيقية للتقدم الوظيفي.
ويتميز الجيل المولود بين عامي 1966 و1985، الذي شهد نكبة حزيران والصحوة الدينية وسقوط النظام الاشتراكي، بقدرته على التكيّف والبراغماتية على الرغم من شح الإمكانيات المادية. وبعد ذلك جاء جيل وشهد التغيير الاقتصادي والتكنولوجي، فطور مهارات التأقلم، وطمح إلى تحقيق التوازن بين العمل والحياة مع التأكيد على الاستقلالية. وفي الواقع، كانوا هم الذين بدأوا في تقديم فكرة تغيير الوظائف لتسريع التقدم الوظيفي أو للتكيّف مع بيئات العمل الجديدة.
أما جيل الألفية، المولود بين عامي 1986 و2004، الذي عاش التقهقر العربي في العراق وليبيا وكثير من الأقطار العربية، فقد تشتت لديه الرؤية، وأصيب بهزات زعزعت ثقته بجدوى التعليم للحصول على وظيفة ومستقبل لائق. وقَبِل كثيرٌ من الشباب الالتحاق بالسلك العسكري وترك التعليم والعمل المدني. وبالمقابل هناك كثير من الشباب، ذكورا وإناثا، سعوا ويسعون إلى إيجاد معادلة جديدة توفّق بين متطلبات التعليم والتأهيل من خلال تعزيز الاتصال بتقنيات الاتصال التكنولوجي الحديثة والتطلع إلى تحقيق التوازن بين العمل والحياة. كما يشترك هذا الجيل مع الجيل السابق في ممارسة المرونة والانفتاح والارتباط بوسائل الاتصال الحديثة، والرغبة في المغامرة والإسراع في اكتساب المهارات بشكل مكثف في المعاهد أكثر منه في الجامعات.
وفي اعتقادي، يطمح جيل الشباب، الموجود الآن في سوق العمل، إلى تحقيق مطالب أساسية للشعور بالرضا والتقدير المهني. فشباب هذا الجيل، مقارنة بالأجيال السابقة، غالبا ما يواجهون تحديات تتعلق بالأجور المنخفضة نسبيا في القطاع الحكومي والقطاع الخاص، مع ضغط التضخم المتفشي وتدني قيمة العملة المحلية، وارتفاع أسعار العقارات، الأمر الذي يجبرهم على العمل في أكثر من مكان في الوقت نفسه.
وهذا يعني أنهم يعطون أهمية كبيرة للحرية والمرونة في بيئة العمل. ولذا فهم يبحثون عن الشركات التي تمنح استقلالية أكبر في تنظيم عملهم، وتعطي مرونة في ساعات العمل وإمكانيات العمل عن بعد. بالإضافة إلى ذلك، فإن الثقة التي يضعها أصحاب العمل في أنفسهم للتعبير عن أفكارهم والمساهمة بشكل خلاق تحظى بتقدير كبير من قبل شباب هذا الجيل.
ويبدو أن جيل الألفية، يسعي لتحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة، فهم يبحثون عن بيئات تدرك أهمية تقديم إجازات وجداول زمنية مرنة، ودعم يمكنهم من الحفاظ على التوفيق بين التزاماتهم المهنية والشخصية.
ومن ناحية أخرى، أدى التطور السريع للتكنولوجيا إلى إعادة تشكيل المشهد المهني بشكل كبير وظهور وظائف جديدة لم يكن كثير منها موجودا قبل بضع سنوات فقط. كما أحدثت الشبكات الاجتماعية، مثل Facebook وInstagram و Twitter (X) و LinkedIn و TikTok ، ثورة ليس فقط في الطريقة التي نتفاعل بها عبر الإنترنت، ولكنها أنشأت أيضا نظاما بيئيا احترافيا جديدا تماما يتم فيه تنفيذ العمل بدقة. وأصبحت كثير من الوظائف خارج متناول أي شخص من جيلنا الذي لا يمكنه متابعة تطور تلك التقنيات والبرامج الرقمية، وكذلك التأثير الرقمي وإدارة المحتوى والأمن السيبراني والتي باتت تشكل حجر الزاوية لجميع المؤسسات والشركات.
وإذا كان بإمكان القطاعات التقليدية تحقيق شيئا من التطور، لاسيما تلك التي تعتمد على الوظائف اليدوية، فهي ستفقد قريبا سمعتها ومكانتها بسبب التقدم التكنولوجي والأتمتة. ومن ناحية أخرى، يتطلب التغير المتواصل في البرامج والأجهزة الرقمية مهارات جديدة وسرعة استجابة يصعب اكتسابها من قبل الأجيال المتقدمة في العمر. كما أن المهن الرقمية نفسها تتطور وتتجدد باستمرار لتلبية المتطلبات المتغيرة للاقتصاد الرقمي، مما يجعل من الضروري تحديث المهارات باستمرار ومراقبة المهنيين في هذا القطاع باستمرار.
ولا يبدو أن الأجيال السابقة يمكن أن تنافس جيل الألفية في هذا المجال.