مناضلو الحراك الجنوبي وأدب السجون (٢) أحمد الربيزي وحكايات أسير سابق


مسعود عمشوش

أحمد حسين الربيزي هو، بين جميع مناضلي الحراك الجنوبي، من سارع إلى نشر مذكراته في سجن الأمن السياسي العفاشي، بعد خروجه من السجن مباشرة، وبشكل مسهب، في 18 حلقة تحمل عنوان (حكايات أسير سابق)، وذلك ابتداءً من 29 يونيو 2010 وحتى 25 يوليو 2010، في موقع (منتديات الضالع بوابة الجنوب). وكان الربيزي حينها ناشطا سياسيا ومراسلا لقناة (عدن لايف).
وتحتوي مذكرات الربيزي على أبعادٍ جمالية عدة، على الرغم من أن مؤلفها يؤكد أنه لم يكن يهدف إلى كتابة نص أدبي، بل إلى رفع معنويات زملائه في الحراك الجنوبي، إذ يكتب: "عندما فكرت أن أكتب هذه الحكايات لست قاصدا منها إلا رفع معنويات إخواننا الذين يناضلون في ساحات النضال السلمي العديدة، سواء أكانوا في مدن وقرى الجنوب المحتل أو في بلدان الشتات ومدنه، أو في المحافل العربية والدولية، وفي كل مواقع ومنتديات الجنوب في الشبكة العنكبوتية. وكذلك الاستفادة مما جرى لنا في هذه التجربة المريرة، وليعرفوا كيف يواجهونها ويأخذون منها ما يستفيدون من دروسها، ويتجنبوا ما وقعنا فيه، لأننا أصبحنا جميعا أمام هذه الاحتلال المتخلف الهمجي معرضين للاستشهاد في أي لحظة، بواسطة رصاصات الغدر الإجرامية لبلاطجة قوى الاحتلال في ساحات وميادين الشرف، عندما نخرج لنهتف سلميا لتحرير الجنوب عاريي الصدور، أو أن نكون مشروعا للاختطاف من قبل عصابات الـ(جانجوييد) اليمني، والزج بنا في سجونه المظلمة، التي لا تزال من بقايا العصور الوسطى. وكتبتُ هذه الحكايات لتكون كذلك شهادتي على ما جرى ويجرى لأبناء الجنوب في سجون الاحتلال".
وتتميز مذكرات الربيزي باحتوائها على طريقة ذكية للمزج بين الوصف المفصل والدقيق والسرد المسهب؛ ففي الحلقة الأولى من المذكرات (البقال ونهاية المهمة)، مثلا، يسرد لنا الربيزي بشكل تفصيلي لحظة اعتقاله في عدن في 12 مايو 2009، ويبيّن لنا فيها الطرق التي اتبعها الأمن المركزي العفاشي لمراقبة أبناء الجنوب والناشطين السياسيين والإعلاميين بشكل خاص، ودور البقالات والصنادق التي انتشرت في أركان معظم شوارع مدن الجنوب بعد حرب 1994، ويكتب: "لم يخطر في بالي في عصر يوم الأحد 12 مايو من عام 2009، وأنا خارج من منزلي الكائن في حي جمال بخور مكسر، أنني هدف للاعتقال من قبل أعين تتربص بي رغم إنني كنت منذ ما قبل عدة أيام أشعر بوخزاتها في ظهري وهي تلاحقني، إلا أنني سرعان ما أردد في نفسي أن هذه هواجس الظنون، أو ربما هو الخوف الذي تزجره الحمية بسرعة. وعندها أشحذ همتي حتى لا يتسرب الخوف إلى مفاصلي كذاك الطفل في الظلمة يرفع صوته عاليا ليؤنس وحدته ويبدد خوفه. هكذا هي حياة الكثير من المناضلين الجنوبيين والذي يشعرون بالقلق دائما من إرهاب سلطة الاحتلال التي تجعل حياتهم في تهديد مستمر، ولكنهم لا يسمحون لهذا الشعور أن يستبد بهم أو أن يسيطر عليهم. خرجت من منزلي في الرابعة بعد أن قررت فجأة أن أشتري لي عود قات، وأعود إلى المنزل لأرتاح بعد أن أكملت عمل مهم للقناة (عدن لايف) كنت بدأته قبل أيام. في الحقيقة، عند خروجي شاهدت - وهذه المرة الأولى التي أشاهد المراقبة وجها لوجه- مجموعه رجال كانوا بلباس مدني في سيارة بيضاء، لا أدري ماركتها، واقفة أمام فتحة الشارع الذي يقع بيتي في إحدى زواياه. لا أدري حقيقةً سبب عدم عودتي وعدم أخذي الحذر برغم أنهم لفتوا انتباهي، إلا إنني لم آخذ الموضوع برمته باهتمام. هل كان ذلك بسبب عدم وجود حس أمني لدي؟ أو أنها الثقة الزائدة التي انتابتني، وأن لا أحد يقدر أن يكتشفني، أنا الذي أكتب في النت باسم مستعار (هاجس فحمان). مررت أمامهم وليس ببعيد عنهم وجها لوجه. ومع ذلك مررت بسلام وطلعت سيارة ذاهبا إلى سوق القات. وهنا لابد أن أوضح شيئا واحدا؛ وهو أن المرة الأولى التي شعرت فيها أنني هدف مباشر لقوات أمن المحتل أو هدف للاعتقال (وليس للمراقبة وهناك فرق دائما ـ نعم)، كان أمام مبنى الأيام أثناء أول محاولتهم للهجوم واقتحام مبنى الأيام حينما كنّا عند بابها في اعتصام لمنع اعتقال أبو باشا هشام باشراحيل (ربنا يعطيه الصحة). يومها شاهدت البقّال (صاحب بقالة) عندنا في الحي ويدعى رضوان -وقد كنا نشك في أنه أمن قومي أو سياسي-، إلا أنه في ذاك اليوم تبينت لنا هويته بالملموس، عندما شاهدته في طرف الاعتصام بجانب قوة الأمن السياسي التي كانت تراقب المعتصمين، فلما قمت لكي أغادر المكان من الجهة الأخرى قام باتجاه زملائه وكأنه يقول لهم ساعتها: ها هو هذا الربيزي. وعلى فكرة هذه آخر مرة يُشاهد فيها رضوان في عدن".
وفي الحلقة التالية يتحدث الربيزي عن أساليب التحقيق وأصنافه الرهيبة في سجون الأمن السياسي، أولا في عدن ثم صنعاء، حيث يذكر: "بدأت تحقيقات الأمن السياسي معي. وفي ذكر  هذه التحقيقات لا بد من الإيجاز لأنها مكررة،  يوميا نفس الأسطوانة، فيها من التكرار ما يصيب السجين بالملل. والكل يعرف أن أسواء ما في السجن هي ساعات التحقيق، وساعات ربما تتعرض فيها للتعذيب بوسائل وأنواع كثيرة لا تحصى، والتي أظن أننا نحن العرب ابتدعنا فيها من الابتكارات والوسائل الجديدة الشي الكثير، بل وبكل فخر تفوقنا فيها. وينقسم التعذيب إلى قسمين: تعذيب جسدي وطرقه ووسائله عديدة، والتعذيب النفسي وله طرقه ووسائله أيضا، وهي كثيرة، ولست هنا مضطرا أن أكذب وأقول إنني شخصيا تعرضت لأي نوع من أنواع التعذيب إذا افترضنا أن التحقيقات ليست بحد ذاتها تعذيبا وإرهابا نفسيا.. المهم أنني اكتشفت أنهم لا يملكون أي اتهامات محددة يمكن أن يوجهونها لي مباشره، وأن عليهم إيجاد هذه التهم من خلال ما يمكن أن تسفر عنه التحقيقات".
ويذكر أنهم عثروا على ضالتهم في هاتفه المحمول، الذي يحتوي على أرقام ورسائل (sms) وأخبار مستلمة وأخبار مرسلة، أما للقناة الفضائية أو لرجالات إعلامية في الداخل أو الخارج، وهي كثيرة. وخلال يومين أخرجوا أكثر من أربعة ملفات هي محتويات هاتفي ومنها أكثر من 700 من الأسماء وأرقام هواتف و إيميلات أشخاص ومنهم الكثير من قيادات الحراك الجنوبي ومن القيادات في الخارج والكثير من الرسائل والإشعار وهذه المواد هي التي تم التحقيق فيها بالإضافة إلى محتوى ايميلي الذي انتزعوه مني بالتهديد وكذلك من جهاز الكمبيوتر حقي الذي نهبوه من منزلي بعد إن حملوني إلى منزلي اليوم الثاني وفتشوه ونهبوا جهازي ومذكرات كانت بحوزتي".
ويتابع الربيزي الحديث عن أساليب التعذيب في سجون الأمن السياسي والأمن القومي بعد نقله إلى سجون صنعاء، حيث يكتب: "كنت أتوقع التعذيب الجسدي في أي لحظة، لكن حقيقة الأمر لم نتم تعذيبي. وسمعت قصص التعذيب ومنها ما يشيب الرأس وبرغم أن نصيب الأمن السياسي منها يسير، وكان نصيب الأمن القومي والبحث الجنائي هو الأكبر؛ فكثير من الحوثيين ومن المتهمين بالقاعدة مروا من زنزانات الأمن القومي إلى إن وصلوا إلى الأمن السياسي الذي يعتبرونه أنموذج وسجن محترم مقارنة بما شاهدوه وما عانوه في سجن الأمن القومي والبحث الجنائي، ما عدى سجن الإدارة في الأمن السياسي أو سجن (شجني)، فيه الزنزانات الخاصة التي تقع بجانب مكاتب الإدارة في الأمن السياسي، وشجني هذا هو القائم على تلك الزنزانات الخاصة، وحتى لا يفوتنا شيء ف(شجني) لم يعد شجني الأب الذي توفي منذ سنوات قليلة ليخلفه شجني الابن، ولم يخلفه فقط في القيام على زنزانات الدرجة الأولى بل حتى في مسألة التعذيب وبنفس الطريقة التي أبتدعها شجني الأب، ومنها التلبيس بأكياس بلاستيكية طوال الوقت والقبض على الخصيتين بقبضة اليد وبشدة تفقدك الوعي وهذا حسب تأكيد بعض ممن خاضوا هذه التجربة المريرة، وهم من المتهمين بالانتماء إلى القاعدة. اللهم له الحمد وله الشكر أنها لم تحصل مع أحد منا الحراكيين، ويقال إنها نادرة ولم تحصل إلا مع أعتى الفوضويين وخاصة ممن يعملون فوضى من المساجين في السجن نفسه".
 وتتميز مذكرات الربيزي كذلك باحتوائها على مقاطع حوارية تعطي النص شيئا من الحيوية، فهو مثلا يذكر أثناء سرده للتحقيق: "قالوا: يعني انته لا تعترف إنك من اليمن؟ قلت لهم: نحن من الجنوب وسمّه ما شئت. وكنا دولة تهزّ الشرق الأوسط هز، دولة ذات سيادة ومعترف بها من قبل العالم ودخلنا في وحدة مع (ج ع ي) في وحدة سلمية انقلبت علينا وأعلنت الحرب على الجنوب وأصبحنا دولة محتلة من قبلكم. قال: يعني نحن دولة استعمرتكم؟ قلت له: لا للأسف الاستعمار من التعمير، وأنتم لا تعمرون، بل أنتم دولة محتلة للجنوب".
وبعكس الحال في عدن التي لم يكن بها إلا سجن الفتح ذو الزنازين محدودة العدد، يقدم لنا الربيزي أصناف عدة من السجون في صنعاء. وهي سجون كبيرة تحتوي على عدة أجنحة وعدة طوابق وعدد كبير من الزنزانات الفردية. وإضافة إلى تنوع سجون صنعاء يقدم لنا أحمد الربيزي تنوع المساجين فيها، ويقول إنه كان محظوظا لأنهم وضعوه أولا في الجناح الغربي من سجن الأمن السياسي. ففي إحدى زنازين هذا الجناح (رقم 7) "يرزح رجل عظيم بحجم سعادة السفير قاسم عسكر جبران، أو كما يدعونه كل المعتقلين والجنود (العم قاسم السفير)، وزنزانته هذه هي الوحيدة التي لا يغلق بابها، كون العم قاسم يعاني من عدة أمراض؛ لذلك تركوا بابه مفتوحا ليتمكن سعادة السفير من الذهاب إلى الحمام في أي وقت يريد. وهو أكبر رجل في سجن الأمن السياسي عمرا ومستوى كسفير سابق كانت له صولات وجولات في أروقة السياسة وعلاقات الدول. الكل هنا يحترمه للطفه ودماثة أخلاقه وقوة شخصيته ومعنوياته التي لم تهزها ظلمات السجون، بل العكس قوته وأكسبته مناعة".
ويستطرد الربيزي في وصف الحياة الرتيبة في السجن بشكل جميل يندر أن نجد مثله في كتب أدب السجون، فهو يكتب عن فقدان الإحساس بتوالي الأيام قائلا: "أيام مضت لا أدري كم هي؟ ولا أدري حقيقة الأمر ما هو اليوم الذي نعيشه، بل لا بالغ إن قلت: لا ندري كم هي الساعة التي نحن فيها. تمر الأيام متثاقلة والأحوال هي هي لا جديد غير أن التحقيقات انتهت. ولم نعد نصعد إلى إدارة التحقيقات المملة والمزعجة. ولم أعلم خلال إقامتي في زنزانة الطارود الجنوبي رقم (5) أن إخواني وزملائي وأصدقائي صلاح السقلدي وفؤاد راشد كانوا معي في هذا المبنى، في أحد أقسامه، بل أني كنت أعرف أن أخي فؤاد معتقلٌ في المكلا، ولم أعلم حتى أن أخي صلاح السقلدي قد تم القبض عليه برغم ورود  اسمه في التحقيقات التي تمت معي في عدن وفي سجن الأمن السياسي في صنعاء، وقد كانت أسألتهم ملحة حوله ومتكررة حول معرفتي به، وكنت أقول لهم -وهي الحقيقة - إنني لم ألتق بصلاح إلا فيما ندر، ولكني أسمع عنه في شبكة النت كإعلامي جنوبي ورئيس تحرير شبكة خليج عدن الإخبارية، ولقاءاتي به معدودة.
كنت من بين المعتقلين الجنوبيين كلهم في هذ القسم الجنوبي من سجن الأمن السياسي في البدروم بمفردي، بينما زملائي فؤاد وصلاح كانوا كما قالوا لي فيما بعد ـ بجانب بعضهم البعض في بدروم  القسم الشمالي، وكان القنع وفادي باعوم وحسين زيد قبل إن يطلعوا الاثنين ويبعدوهم عن القنع، جيران بعضهم البعض في بدروم القسم الغربي. نعم كنت وحيدا لا أعلم شيئا عنهم عدى صوت أخي وصديقي أحمد القنع الذي يرسله بين الحين والآخر إليّ مناديا بصوت عميق من بعيد وكأنه من عمق بئر فأنني لا أدري عن بقية زملائي أي شيء. فيا ترى من أي اتجاه يأتيني هذا الندى العميق من صوت أحمد القنع في ساعات الفجر الأولى".
 ثم يذكر الربيزي أنه قد شعر بشيء من الفرح عندما تم نقله إلى الزنزانة رقم 7، ويعبر عن فرحته قائلا: "في صبيحة أحد الأيام وجدت نفسي وسجين معي في هذا الجناح من المتهمين بالانتماء إلى القاعدة نزيل الزنزانة رقم (7)، الوحيدين الباقين في هذا الجناح وقد تم تحويل الباقين إلى أماكن أخرى، بالنسبة لأولاد الحوثي أسكنوهم زنزانة في الجناح الشمالي ليصبحوا جيران لزميلي صلاح السقلدي وزميلي فؤاد راشد الذي تم تحويله بعد ذلك مباشرة إلى الجناح الغربي الداخلي في زنزانة رقم (11)، أما بقية نزلاء الجناح الجنوبي من جيراني فقد وزعوهم على أقسام أخرى ومن الملاحظ من خلال هذه الغربلة والتحويلات والتنقلات الجديدة إن هناك استعداد من قبل إدارة السجن لاستقبال ضيوف جدد".
ويسرد الربيزي بعض الأحداث التي تقع داخل السجن لاسيما المرتبطة بزملائه في الحراك الجنوبي؛  ففي الحلقة السادسة عشرة المعنونة بـ(زنزانة رقم 5 أو زانزانة بزوه الجن)، يذكر لقاءاته ببعض الزملاء الإعلاميين والحراكيين قائلا: "عرفت أن زميلي فؤاد قد تمّ نقله إلى الدور الأول الأرضي في الجناح الجنوبي، وهناك في هذا الجناح الزميل فادي حسن باعوم وأولاد محمد صالح الطماح ياسر وعمار الذي انضموا إليهم لاحقا. وبالنسبة إلى الزميل أحمد القنع فقد تمّت ترقيته بعزله عنا كلنا في الدور الثاني الأعلى، ومن حسن حظه أنه التقى هناك بالزميلين علي شايف الحريري ومحمد الربيعي اللذين أفرج عنهما في نهاية رمضان على ما أظن. أما الزميل صلاح فكان هو الأسواء حظا من بيننا فقد كان نقله إلى الجناح الشمالي الذي يتواجد في إحدى زنزانته الزميل حسين زيد بن يحيى، ولكن من سوء حظ صلاح أنهم وضعوه في زنزانة جماعية فيها أكثر من 15 معتقلا من الحوثيين، وهي الزنزانة التي لا تنام؛ فقد كان قاطنوها يتناوبون الإزعاج كما قال لي صلاح، ولكنهم قد تعودوا على ذلك بحيث ترى بعضهم راقدين وسط الإزعاج دون أن يشعروا بإزعاج زملائهم. هذا الوضع الذي لم يستطع زميلي صلاح تحمله لأكثر من يومين وفي اليوم الثالث انفجر في السجان وطلب إرجاعه إلى زنزانته، وفعلا أعادوه إلى زنزانته بعد أن أصر عليهم، ولم يستمر الحال على ذلك وما هي إلا ساعات وأطلعوه مرة أخرى وكلما أدخلوه زنزانة رفضها ويفضل البقاء في الانفرادية ولا الإزعاج بين ناس لا ينسجم معهم، وفي نهاية المطاف بعد أن اضطروا إلى ذلك واستأذنوا المدير، فقال لهم أدخلوه (الزنزانه رقم 5)) بجانب صاحبه الربيزي (بزووه الجن) وهكذا التقيت أخيرا التقينا بزميل السجن صلاح السقلدي".
ويتحدث الربيزي أيضا عن الأجواء الرمضانية وخيبة أمله حينما تبيّن له أنه لم يكن ضمن من سيتم إطلاق سراحهم، بعد أن كان يأمل ذلك لاسيما أن السجناء الأولين من قيادات الحراك حسن باعوم وعلي منصر وبن فريد والغريب وبن غالب وغيرهم تم أطلاق سراحهم في رمضان.
ويمزج الربيزي سرده للأحداث في السجن ببعض بالذكريات ومخاطبة زملاء السجن ومنهم، مثلا، فادي باعوم الذي يخاطبه في الحلقة 14 قائلا: "ماذا يا أبو حسن (فادي باعوم)؟ ماذا أقول عن ذكريات اللحظات القليلة التي كنت ألتقي بك فيها وأنت معلق في نافذتكم الكبيرة المطلة على الشماسي تنصت للأخبار مني وتحكي لي عن حسن ولدك الذي ولدته أمه وحيدا ولم تتكحل عيناك بصورته ولا فطرت عيناه على صورتك؟ كيف لا أذكر وأنت تحكي لي أن أمه تلومك على تنبيهاتك لها عند اتصالك بها "انتبهي لحسن"، فتقول لك بالحضرمي: وااااه كنك هو حسن أبنك لوحدك؟"
ومن أهم ميزات مذكرات الإعلامي أحمد الربيزي، الذي يعشق الشعر، لاسيما الشعر الشعبي، المزج فيها بين النثر والشعر؛ فهو يضمن الحلقة 13 التي يسميها (شاعرية الزنزانة رقم 12) محاولة شعرية يقدمها على النحو الآتي:
"مما تبقى في ذاكرتي من قصائد متناثرة فاضت مع أنّات الأوجاع وتاهت في دهاليز قصص المعذبين في الأرض: الإهداء: إلى أرواح الشهداء الأبطال والجرحى في الجنوب الحر... إلى أفواه وسواعد الأشبال الهاتفين للحرية، والحاملين أرواحهم وراياتهم بعزة وشجاعة لا تلين. إلى الأمهات وزوجات وأطفال المعتقلين. إلى الأحرار أينما كانوا. بالروح بالدم نفديك يا جنوب.
 (لا تحزني يا زنجبار)
  أفرع الموز تمد ذراعاتها
وأشجارك العاليات العتيقة
تنثر وريقاتها
تخضب سيقانها
بدم وعشق جديد
فيما حواريك يا زنجبار
على رقصة (الشرح)
تزف إلى المجد
شهيدا تلو شهيد
* * *
من وحشة (الغيظ)
في يوليو البغيض
تجوع الرمال
أو هكذا .. يبدو صفير الغبار
لكن ..
سحاب الهضاب القريبة
لا بد أن تستريح على الطمي
لا بد أن يشرب الفل
ريح الصبايا
لا بد يا زنجبار
***
ها قد أتى (الدفر) يا زنجبار
ليسقي حقول (العطب)
ويبقى زهور البراعم
تحمل على أغصانها
بيارق سلام
أتى الدفر
من شرنقات الحصون المنيعة
من مشقرات البيوت
إلى ضفتيك
يفيض من الغرب وادي بناء
ومن ضفة الشرق
حسان يهدر غضب
أتى الدفر
من غفوة للزمان
ليرسم على ساحل أبين
وفي ساحة الهاشمي
وفي عشق ردفان للحرية
وفي أرض كندة
وفي قرية الكود
وحي الطميسي
وميناء شحير
وفوق الوجوه العوابس
بسمة صفاء
ويوضع على رمل بحر العرب
خارطة للجنوب…
يا زنجبار أعذريني
لو إن حزن الروابي
توشح بنار.
اعذريني لأني أخاف تململ هذي الروابي
لأني أخاف أن تستفيق (مسبتات العواتق)
من نومها.
اعذريني
لأن الشرور التي تزحف
من خلف حد النباح
تنقض على نسمة البحر
بنهم المغول.
***
يا زنجبار،
الحنين يطوف بخلدي إليك،
بألف قصيدة،
عزفت نوتاتها بقيد على معصمي.
كتبت كلماتها
على ظهر زنزانتي.
فغني معي،
من خلف قضبان هذي السجون
فلا تحزني.
لأن حواريك يا زنجبار
على رقصة الشرح
تزف إلى المجد
شهيد جديد.
وتتميز مذكرات الربيزي في السجن كذلك بتطرقها للأحداث المهمة التي تقع خارج السجن؛ فهو مثلا في الحلقة 15 يكتب: "اشتعلت الحرب في 12 أغسطس 2009، وهي الحرب السادسة بين السلطة القمعية الغاشمة وحركة الحوثيين في صعدة، وأشتعل معها الإعلام أكثر وأكثر وبين فينة وأخرى يفتحوا إذاعتهم الداخلية لتذيع بيانات الانتصارات الوهمية التي لو حسبناها بحسبه بسيطة كما قال أحد الحوثيين لوجدناهم بتقدمهم في الجبهة قد وصلوا إلى جدة في الجارة الكبرى".
وفي الحلقة الأخيرة يحيي أحمد الربيزي شهداء الجنوب قائلا: "كنت أقول وما زلت: إن كل المتاعب التي لاقيناها في سجون نظام الاحتلال اليمني للجنوب مهما كبرت ومهما بلغت قسوتها من مدى إلا أنها لا تساوي قطرة دم واحدة أريقت من أجل الجنوب من شهداء وجرحى حرية الجنوب الأبطال الذين بذلوا بسخاء دماءهم وأرواحهم الطاهرة في سبيل حرية بلدهم واستعادة استقلالها وكرامتها وعزتها وعزة أهلها وشعبها الجنوبي العظيم أو لحظة وقوف واحدة تحت أشعة شمس صيفنا الجنوبي الحار وقفها ناشط جنوبي وهو يهتف في ساحات النضال السلمي للجنوب "بالروح بالدم نفديك يا جنوب".
ويختتم أحمد الربيزي هذه الحلقة الثامنة عشرة من مذكراته المنشورة، التي يسميها (نهاية الفصل الأول)، بالتأكيد على أنه سوف يقوم بنشر ما تبقى من ذكرياته في سجون صنعاء في فصل ثان قادم، ويؤكد ذلك قائلا: "بقي أن أشير هنا وفي نهاية الفصل الأول هذا من (حكايات أسير سابق) أننا قد أوصلنا رسالة بما يعانيه إخواننا المعتقلون الذين يحملون الكثير من القصص التي سيحكونها سوى كتابة أو شفاهيا في المقايل. وبالتأكيد أن بعض الإخوة من المعتقلين لديهم تجارب أشد وأفظع بكثير مما عانينا نحن، وقد نقلنا في هذه الحكايات، التي أكملنا الفصل الأول منها، والتي تروي الفترة الزمنية منذ أن تم اعتقالي في 12 مايو 2009 إلى ما بعد عيد الفطر المبارك. وأن شاء الله سيكون الفصل الثاني من بداية محاكمتنا أنا وزميليّ فؤاد وصلاح في 23 نوفمبر ٢٠٠٩ إلى أن تم الإفراج عنا في 31 مايو 2010… وسنعود بعد أن نعد الجزء الثاني إعدادا جيدا ومن ثم إخراجه بشكل أفضل. أستودعكم الله وإلى لقاء قريب".


يتبع .. ثالثا- قراءة في يوميات علي شايف الحريري في السجن