تطور سوق الترجمة
مسعود عمشوش
خلال العقود الثلاثة الماضية شهدت مختلف مناطق العالم تحولاً متعدد المستويات، لعلّ أهمها يتجسّد في زيادة الاعتماد على التقنيات الرقمية والطرق المبتكرة لإنشاء النصوص والصور والمحتويات المختلفة، والتواصل وممارسة الأعمال التجارية في جميع القطاعات وبلغات متعددة في الوقت نفسه.
وقد ألزم هذا التحول الرقمي القطاع الخاص والحكومات والمنظمات غير الحكومية والمجتمعات والمواطنين بإعادة النظر في كيفية تفاعلهم مع المواد التجارية والتعليمية والثقافية، كما أثـّـر هذا التحول الرقمي في كيفية إنشاء وإعداد تلك المواد وعرضها والحفاظ عليها وتلقيها واستهلاكها.
ومن المعلوم أن تلك الوسائل التقنية الحديثة المعتمدة في التواصل وتداول المعلومات تعدّ من أبرز مخترعات هذا العصر، وأسهمت كثيراً في تطور العلوم والمعارف من خلال تغييرها الجذري لوسائل تبادل المعلومات وتلقيها، فبعد إن كنّا نعتمد على القلم والورق والكلام الشفوي في التواصل ونقل المعلومات، أصبحت الوسائل الرقمية والأجهزة التكنولوجية الحديثة هي الوسيلة الأبرز والأسرع في توثيق كافة العلوم والمعارف والتداولات التجارية وغير التجارية.
فمع انتشار التقنيات الرقمية أصبحت البضائع والمعلومات تنتشر بسرعة فائقة في مختلف أنحاء العالم وبعشرات اللغات في اللحظة نفسها، لهذا زادت الحاجة لخدمات الترجمة السريعة والفعالة، واتسع سوق الترجمة. مثلا، في بريطانيا، التي تعدّ اليوم ثاني سوق ترجمة في العالم بعد الولايات المتحدة، أصبحت الترجمة نشاطا يدر أرباحا طائلة لأعداد كبيرة من المترجمين والمؤسسات المتخصصة في تسويق الترجمة، لاسيما تلك المرتبطة بأعمال التجارة والصناعة.
واليوم لا تزال الترجمة الاحترافية عالية الجودة، والتي تعتمد على العنصر البشري، هي الموثوقة والمعتمدة رسميا، لاسيما في المجالات القانونية والأدبية، لهذا فأن الحاجة إلى المترجم البشري ستظل قائمة حتى مع تطور التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي. ولذلك فأن أعداد المترجمين سيظل في ارتفاع مستمر على الأقل خلال العقدين القادمين. وزاد كذلك عدد شركات الترجمة التقليدية التي تعتمد على عدد محدد من المترجمين، ولا تزال كثير من الهيئات الحكومية والخاصة تعيّن مترجما متخصصا أو أكثر.
ومع ذلك فالمترجمون الاحترافيون باتوا اليوم يواجهون منافسة شرسة من وافد جديد، وهو برامج الترجمة المعتمدة على الآلة والذكاء الاصطناعي (AI) الذي يشهد هو الآخر زيادة في الطلب عليه. فمع ارتفاع الطلب العالمي على الترجمة السريعة بات من اللازم الاستفادة من وسائل الترجمة الرقمية وبرامجها. لهذا دخلت الرقمنة والذكاء الاصطناعي بقوة في مجال الترجمة، وسط مخاوف من قدرتها على تعويض المترجم البشري. فاليوم تقدم برامج مثل "غوغل ترانسليت" (google translate)، و"مايكروسوفت ترانسليتور" (Microsoft Translator)، و"آي فلاتيك" (iFlytek)، نتائج باهرة في مجال الترجمة الآنية، لاسيما في كل ما يتصل بالمحتوى العام الذي يحتاجه المسافرون والسائحون أو متصفحو الإنترنت. أما الترجمة عالية الجودة فهي ما تزال كما ذكرنا بحاجة للعنصر البشري. ويبدو لنا أنه من المستبعد أن يحل الذكاء الاصطناعي محل البشر كليا في جميع ميادين الترجمة.
ولا شك في أن الترجمة الآلية، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، تتفوق كثيراً على أنماط الترجمة التقليدية من حيث السرعة وخفض الكلفة المالية. لكن في الغالب يضطر مستخدمو هذا النوع من الترجمة إلى تكليف مترجم بشري للعمل على تحسين المخرجات لضمان الدقة المطلوبة. ولا شك في أن الحاجة ستقل تدريجياً لعملية المراجعة والتنقيح مع تحسن أداء الترجمة الآلية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. ويمكننا القول إن الترجمة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي تضمن ترجمة نصوص كبيرة الحجم في وقت قصير، كما أنها تساعد المترجمين على زيادة إنتاجيتهم ومخرجاتهم اليومية في وقت أقصر كذلك.
وإضافة إلى خدمات الترجمة التي توفرها مكاتب الترجمة التقليدية ومحركات البحث في الانترنت ظهرت مؤخر ما يسمى بمنصات الترجمة. ومنصة الترجمة مكتب ترجمة افتراضي يقع في شبكة الانترنت ويوفر خدمة ترجمة احترافية للجهات المختلفة ومن خلال تأطير فريق من المترجمين المحترفين، الذين يمكن للزبون التواصل معهم في بيوتهم (أون لاين) لتلبية حاجته كما يريد.
ومن إيجابيات تلك المنصات أنها تساعد على توسيع قاعدة المترجمين وبالتالي سوق الترجمة. فهي تتيح للشركات والهيئات أينما كانت الاستفادة من المترجمين من مختلف مناطق العالم، وبأسعار تنافسية مناسبة. ومن المعلوم أن التقنيات الحديثة قد سهلت كثيرا أعمال الترجمة عن بعد. هذا وقد ساعدت جائحة كورونا على انتشار هذا النوع من النشاط الذي تديره منصات الترجمة.