انتهاكات حقوق أبناء الجنوب خلال حرب صيف 1994 وبعدها.. قراءة في كتاب أحمد بن وهّاس (حرب صيف ١٩٩٤ م وهيمنة نظام الجمهورية العربية اليمنية على الجنوب)
مسعود عمشوش
لقد أصبحنا اليوم نعيش في عالم يرتهن في كثير من أحكامه على الشعوب، لاسيما المغلوب على أمرها، لقواعد حقوق الإنسان والقانون الدولي. ويعد توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم والمخالفات التي ترتكب بحق المواطنين أثناء الحروب والنزاعات من قبل الحكومات والجماعات المسلحة والمحتلة عملية بالغة الأهمية. لهذا علينا، اليوم، نحن أبناء الجنوب الذين لا نزال نكتوي بنار الحرب الظالمة، ألا نكتفي بتسجيل تفاصيل الوقائع والأحداث التي تشهدها بلادنا، بل علينا أن نوثق كذلك الأدلة التي تبيّن المخالفات والانتهاكات لأحكام وقواعد حقوق الإنسان والقانون الدولي في بلادنا.
وفي الحقيقة منذ قيام الحرب التي شنتها قوات علي عبد الله صالح على الجنوب سنة 1994 برزت أنواع كثيرة من الانتهاكات التي مارستها الأجهزة الأمنية التابعة لنظام صنعاء بحق أبناء الجنوب بطريقة ممنهجة، لا تزال تجهلها المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني. ولحسن الحظ بادر بعض الأفراد والناشطين إلى رصد تلك الأحداث والانتهاكات، بعضهم عن طريق الكتابة التوثيقية وبعضهم عن طريق الكتابة الإبداعية وبعضهم بواسطة التصوير.
وبعد أن قمنا، الأسبوع الماضي بتقديم رواية (تحت الرماد) التي رصدت فيها الأديبة عيشة صالح بشكل إبداعي عددا من الانتهاكات التي قامت بها قوات المخلوع علي عبد الله صالح والحوثة خلال الحرب التي شنها ضد الجنوب سنة 2015، نقدم في الصفحات الآتية كتابا مهما للغاية، اختار له مؤلف، أحمد بن وهاس، عضو مجلس المستشارين بالمجلس الانتقالي الجنوبي عنوان (حرب صيف ١٩٩٤ وهيمنة نظام الجمهورية العربية اليمنية على الجنوب). وقد حرص أن ابن وهّاس على التأكيد - في الغلاف- أن ما يقدمه للقارء هو توثيق لمرحلة مهمة من نضال الشعب في الجنوب.
يتضمن الكتاب، الذي يقع في 366 صفحة، في مقدمة وسبعة فصول وخاتمة. وجاء في بداية الإهداء الطويل للكتاب: أهدي كتابي هذا إلى أولئك الشهداء والجرحى والمعتقلين الذين واجهوا آلة القتل والقمع والتنكيل لنظام الجمهورية العربية اليمنية دون كلل، دفاعا عن قضية شعب الجنوب العادلة منذ عام ١٩٩٤ وحتى تحرير الجنوب عام ٢٠١٥.
وفي مقدمة الكتاب يبيّن أحمد بن وهاس الهدف الذي يكمن وراء تأليفه للكتاب قائلا: "أعزائي القراء نؤكد لكم أن طباعة هذا الكتاب لم تكن هدفا لي عندما بدأت في جمع هذه البيانات عن الشهداء والجرحى والمعتقلين، بقدر ما كان جهدا لتدوين الانتهاكات والجرائم التي يقوم بها نظام الجمهورية العربية اليمنية ضد شعب الجنوب التي استبيحت ارضه باحتلال عسكري وبربري وهمجي في عام ١٩٩٤. وقد قمت بتدوين ليس فقط الجرائم والانتهاكات بل وعملية التدمير الممنهج للمصانع والمؤسسات الإنتاجية والزراعية والتعليمية والثقافية ونهب الأراضي والعقارات العامة للدولة والخاصة للمواطنين. وقد كان الهدف إيصال هذه البيانات للمنظمات الأممية والحقوقية الدولية لتعرية وفضح نظام الاحتلال الجاثم على أرض الجنوب".
ويذكر ابن وهّاس أنه، قبل جمع كثير من الوثائق التي ضمنها الكتاب، قد بادر أولا إلى تسليم نسخٍ منها لكثير من الأخوة الناشطين في الحراك الجنوبي، لإيصالها لبعض الوفود الدبلوماسية والحقوقية الدولية التي كانت تزور عدن وتسمح الظروف لهم بلقاء هذه الوفود.
ويتضمن الكتاب عددا كبيرا من الجداول التي تبين أسماء الشهداء والجرحى والمعتقلين الجنوبيين. وتغطي تلك الجداول معظم صفحات الكتاب. وقد أكد المؤلف أن الحصول على هذه البيانات للشهداء والجرحى والمعتقلين كان أمرا شاقا. وقد بذل جهدا كبيرا للبحث عمن يعرفهم، أثناء مشاركتهم في المظاهرات والمسيرات والفعاليات الاحتجاجية، أو من خلال الذهاب إلى المستشفيات أو من خلال المتابعة اليومية لأخبار الصحف المحلية والمواقع الإلكترونية.
وقد ضمن المؤلف مقدمة كتابه مدخلا يعرض فيه خلفيات اندلاع حرب 1994، كتب فيه: "سعت قيادة الجمهورية العربية اليمنية منذ اليوم الأول لقيام الوحدة بينها وبين قيادة الحزب الاشتراكي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، إلى التنصل مما تعهدت به في اتفاقية الوحدة الموقعة بينهما، وسعت بكل السبل إلى وضع العراقيل والمشاكل أمام القيادة الجنوبية النازحة إلى صنعاء، بما فيها استخدام الجماعات الإسلامية في عمليات التفجيرات في عدن عاصمة دولة الجنوب، وكذا القيام بعملية الاغتيالات المبرمجة ضد القيادة الجنوبية وتسميم الأجواء في بناء دولة عصرية دولة النظام والقانون المتفق عليها، وصولا إلى إعلان الحرب على الجنوب من ميدان السبعين في صنعاء من قبل رئيس الجمهورية العربية اليمنية علي عبد الله صالح في ٢٧ ابريل عام ١٩٩٤، وقد سبق ذلك الإعلان التحريض على قيادة الجنوب وتكفيرها وإصدار الفتاوى التي تحل قتل الجنوبيين ونهب أموالهم وممتلكاتهم كفيل للقوة الشمالية الغازية وأزلامها والمتعاونين معها".ص6
ويؤكد المؤلف "أن ممارسات الجرائم ضد الانسانية التي ارتكبها النظام اليمني بحق شعب الجنوب منذ حرب 1994 المشؤومة بمختلف الطرق والأساليب اللاإنسانية والمنافية للأعراف والقوانين السماوية والوضعية، بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وتعهدات النظام للمجتمع الدولي عقب الحرب، قد بلغت حد لا يطاق .. و دفع ذلك الحال الكثير من الجنوبيين للتعبير عن رفضهم لهذه الممارسات بمختلف الأشكال والأساليب منذ أن وضعت الحرب أوزارها وقد تكلل ذلك النضال بقيام الحراك الجنوبي السلمي في ٧ يوليو عام ٢٠٠٧، وما لحق ذلك من تغيرات دراماتيكية في الصراع داخل بنية النظام في صنعاء، وما أفرزه ذلك الصراع من حرب عدوانية على مناطق الجنوب والذي جوبه بمقاومة جنوبية مستميتة أدت إلى تحرير الجنوب من قوات الجمهورية العربية اليمنية وأعوانها الحوثيين في صيف عام ٢٠١٥ م .. وكمساهمة منا في توثيق مرحلة من المراحل التاريخية التي من بها الجنوب تحت حكم نظام صنعاء وحفاظا على تضحيات ومآثر أولئك الرجال الذي ناضلوا ضد الظلم والذل والاستبداد والتهميش التي عانى منه شعبنا فأنني أقدم هذا الكتاب كوثيقة تاريخية توثق للفترة الممتدة من ۱۹۹٤ إلى عام ٢٠١٤".
ويقدم لنا المؤلف نماذج عدة من الممارسات العنصرية التي أتبعها المحتلون في حق أبناء الجنوب بيم سنة 1994 و2015؛ منها: امتهان آدمية المواطن الجنوبي من خلال الاضطهاد والقتل والسحل. والاعتقال والسجن والطرد من الوظيفة بمختلف الأساليب، وعدم التوظيف في الوظائف الحكومية في مختلف المؤسسات والوزارات، ومضايقة وتطفيش من تبقى منهم في بعض هذه المؤسسات، وعدم إعطائهم مستحقاتهم الوظيفية في شغل المناصب أو المساواة في الرواتب وحرمانهم من مستحقاتهم المالية، وربط كل المعاملات الحكومية بالوزارات والدوائر المركزية في صنعاء، وكذا تقييد حركة المسافرين من خلال الرحلات الجوية عبر العاصمة الشمالية صنعاء، وحصر عملية الاستيراد والتصدير والاحتكار للمواد الأساسية بالتجار والشركات الشمالية وحرمان أبناء الجنوب منها، كما يتم حرمان أبناء الجنوب من المقاولات للمشاريع الحكومية وحصرها بالمقاولين الشماليين، وإذا ما تم إعطاء أي مقاولات للجنوبيين يتم حجز مستحقاتهم المالية، كم حدث للمقاولين في حضرموت أثناء الاحتفالات بذكرى الوحدة. ومن تلك الأساليب العنصرية:
- تطهير المؤسسات العسكرية والأمنية من أبناء الجنوب، ويتمثل ذلك من خلال الإحالة إلى التقاعد والتطفيش المتعمد لهم من قبل القيادات الشمالية بمختلف الأساليب القذرة من سحل واغتيال بدراجة نارية كما حدث للعميد أحمد جمعان بارماده وفي قلب مدينة المكلا وغيره.
-عدم قبول أبناء الجنوب في المعاهد والكليات والمدارس العسكرية وعدم إرسالهم إلى الخارج في دورات ومنح عسكرية.
-عدم فتح باب القبول للالتحاق بالمؤسسات العسكرية والأمنية، وإذا ما ندر وتم قبول البعض منهم فذلك لحاجة السلطة لهم. لزج بهم في الحروب العبثية للنظام وحسب احتياجاته ثم يتم طردهم من الخدمة بعد سجنهم وحرمانهم من مستحقاتهم كما حدث لـ ۲۰۰ فرد في شهر أكتوبر ۲۰۰۸ من محفظتي أبين وشبوة تم تجنيدهم في شهر ابريل ۲۰۰۸ من قبل وزير الدفاع، أو كما حدث على سبيل المثال ، للجندي محمد محسن هادي من أبناء ردفان الذي أصيب في المعارك بين الجيش وأتباع الحوثي وبعد خروجه من المستشفى تم الزج به في السجن الحربي في صنعاء ، أو كما حدث لزميله زكي عبد القوي ثابت عبيد من أبناء ردفان، والذي زج به مع ٥ من زملائه في سجن الفرقة الأولى مدرع عندما طالبوا برواتبهم في إحدى معسكرات صعدة.
- طرد أبناء الجنوب من الأجهزة الدبلوماسية والقضائية والوزارات والمؤسسات والمرافق الربحية والسيادية والمالية، والوزارات المركزية ومن بقي منهم في مكاتب فروع الوزارات في بعض محافظات الجنوب يتم استخدامهم في الأعمال الهامشية، أو أبواق لدعاية لرموز النظام الحاكم ليس إلا. كما تمت الإحالة إلى التقاعد، لعدد (٨٦) سفيرا جنوبيا، وأكثر من ( ۲۰ ) وزيرا ، وأكثر من ( ١٥ ) نائب وزير ، وأكثر من ( ٥٠ ) وكيلا ، وأكثر من ( ١٣٨٥ ) مديرا.
-نشر ثقافة الكراهية ضد الجنوب الجنوبيين: وقد تجلى ذلك واضحا منذ اليوم الأول للوحدة من خلال عملية الاغتيالات. والتفجيرات وإصدار الفتاوى الدينية المكفرة والتحريض والتشهير ثم تبع ذلك إعلان الحرب واحتلال الجنوب وما تبعه ذلك من ممارسات وإجراءات حاقدة ضد كل ما هو جنوبي من شجر وحجر وبشر.
-طمس الهوية الجنوبية: وقد تجلى ذلك في جملة من الإجراءات التي تستهدف هوية أبناء الجنوب وتاريخهم وثقافتهم والتي يمكن أبرز المؤلف أهمها بالتالي:
-تدمير الأرشيف السابق لدولة الجنوب بما يحويه من وثائق هامة من السجلات التي تؤرخ لتاريخ وأملاك وعادات وتقاليد وثقافة وأثار ونظم وقوانين وأعراف، وثورات وغيرها. كما تم تدمير أرشيف سجلات بطاقات هوية أبناء الجنوب وجوازاتهم، وفرض هوية جديدة عليهم. وتم صرف بطاقات هوية جديدة لكثير من أبناء الشمال باعتبارهم سكان جنوبيين. تم صرف شهادات ميلاد مزورة لأبناء الشمال باعتبارهم من مواليد الجنوب. وتم تدمير أرشيف السجل المدني لدولة الجنوب الذي يؤرخ للمواليد والوفيات. وتم تدمير أرشيف دولة الجنوب الخاص بالسجلات الخاصة بالمركبات وقوانين ولوائح ونظم المرور. وكذل أتلف الأرشيف الخاص بدولة الجنوب والخاص بالنظام المالي والإداري والرقابي والنظم والقوانين واللوائح المالية والإدارية. ونهب معظم الأرشيف الخاص للإذاعة والتلفزيون لدولة الجنوب وما يحويه من تسجيلات وأغاني ورقصات وتسجيلات ثقافية ومسرحيات وأفلام ومسلسلات تؤرخ لثورات الجنوب وعاداته وتقاليده وثقافته. وتم تدمير الوثائق الخاص بثورة ١٤ أكتوبر ومناضليها ويتم تزيف الأحداث للثورة حسب رغبات النظام الحاكم.
إضافة إلى ذلك بيّن أحمد بن وهاس في كتابه أن صنعاء دأبت على طمس التراث التاريخي للجنوب من خلال هدم المساجد القديمة وما تمثله من ارث تاريخي وديني مثل (مسجد أبان التاريخي الذي له أكثر من ١٤٠٠ عام) وغيره من المساجد القديمة. وعبثت كذلك بالآثار في كل مناطق الجنوب لاسيما في شبوة وحضرموت، مثل حصن الغراب في بئر علي. وعبثت بأماكن العبادة مثل معابد اليهود وكنائس المسيحيين، ومعابد الهندوس والفرس وغيرهم في عدن. وتمت سرقة الآثار التاريخية من المتحف العسكري والمتاحف الوطنية في عدن ومدن الجنوب الأخرى أو من أماكن التنقيب على الآثار في مناطق الجنوب - و طمس العادات والتقاليد الجنوبية وإحلال العادات والتقاليد الشمالية والغريبة على الجنوب وأهله ، والقضاء على الموروث الشعبي الجنوب.
وركز المؤلف كذلك على الأساليب التي أتبعتها صنعاء لإحداث تغيير ديموغرافي في المدن والقرى الجنوبية وحولت كثيرا منها إلى مستوطنات شمالية. وقامت كذلك ببناء المدن الاستيطانية لأبناء الشمال في الجنوب لتغيير التركيبة الديموغرافية الجنوبية، كما حدث في منطقة الرباط وخرز في محافظة لحج والمدينة الخضراء. وهناك اليوم الكثير من البؤر الاستيطانية مثلما هو الحال في العند، وقرية بيع العريش ومنطقة كابوتا، ومدينة إنماء، والمدينة الزراعية، ومدينة الرئيس بالبريقة، ومدينة عبد الولي الشميري ( مدينة الفردوس ) بين محافظتي عدن ولحج ، وغيرها من المناطق.
وفي خاتمة الكتاب يذكر المؤلف أن ظل مسكونا بهاجس طباعة هذا الكتاب منذ ٢٠١٧، ولكن كانت تكلفة الطباعة مرتفعة وتتجاوز إمكاناته. وأخيرا تمكن في منتصف هذا العام 2024، من طباعته في عدد محدود من النسخ، وبدعم بسيط من رئاسة مجلس المستشارين.
وقد اختتم أحمد بن وهّاس كتابه على النحو الآتي: "أتمنى أن أكون قد وفقت في هذا الجهد الشخصي الذي قمت به من جمع وتوثيق المعلومات والذي قد لا يرقى إلى مستوى الكمال، ولكنه خطوة مهمة لتعريف الأجيال الحالية والقادمة بما قدمه آباءهم وأخوانهم من تضحيات ومآثر في مشوار نضالهم السلمي ضد قوات الاحتلال والهيمنة لنظام الجمهورية العربية اليمنية على أرض الجنوب، وهو وثيقة تاريخية توثق للجرائم والانتهاكات التي قامت بها قوات صنعاء على أرض الجنوب".