أزمة الصحافة الورقية
مسعود عمشوش
حتى نهاية القرن العشرين، ظلّت الصحافة الورقية المطبوعة، التي انتشرت في العالم بعد اختراع المطبعة مباشرة في نهاية القرن السادس عشر، أهم وسيلة إعلامية في العالم. ومنذ منتصف القرن العشرين بدأ كل من الإذاعة المسموعة والتلفزيون المرئي في منافستها، لكن أي منهما لم يستطع أن يحل مكانها. لكن مع الانتشار الواسع لاستخدام الإنترنت، منذ تسعينيات القرن الماضي، بات معظم القراء يتابعون الأخبار في المواقع على شبكة الانترنت، وزادت أزمة الصحف الورقية، حتى أنها تجاوزت الأزمة التي صاحبت ظهور الإذاعة ثم التلفزيون. واختارت كثير من الصحف وقنوات التلفزيون الفضائية نشر محتواها رقميا، مجانا أو بشكل مدفوع، وأخذت النسخ الورقية تتراجع، وقيل إنها ستختفي تدريجيا، لاسيما في الدول المتقدمة التي أصبحت شبكات الانترنت فيها سريعة ورخيصة.
كما وفرت تلك المواقع الرقمية وسيلة جديدة وفعالة لنشر الإعلانات التجارية وبكلفة أقل مقارنة بكلفة إعلانات الصحف الورقية التي أصيبت بمقتل وتراجع عدد نسخها المطبوعة ورقيا والاشتراكات، وانهارت عائداتها من الإعلانات. كما تعاني الصحف الورقية من زيادة تكاليف الطباعة، وسعر الورق والمواد الخام وتكاليف التوزيع.
وكل ذلك أدى إلى إغلاق آلاف الصحف الورقية في مختلف أرجاء العالم. فمنذ سنة 2005، وحتى سنة 2021، أغلقت 2200 صحيفة ورقية في الولايات المتحدة أبوابها. وتحول بعضها إلى صحف الكترونية فقط، مثلما فعلت "نيوزويك" الأميركية بعد أن ودعت آخر نسخة مطبوعة في ديسمبر من عام 2012، وانخفضت أعداد الصحفيين العاملين في الصحف المطبوعة الأمريكية إلى النصف تقريباً.
ولا يختلف حال الصحافة الغربية عن حال الصحافة الأمريكية؛ ففي بريطانيا أعلنت صحيفة (الاندبندانت) العريقة عن توقف طبعتها الورقية سنة 2016، رغم تخفيضها عدد موظفيها في سنة 2008 ، وألغت صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) منذ أكتوبر سنة 2008 طبعتها الورقية بعد قرن كامل من الصدور . وفي فرنسا تشهد الصحافة الورقية انحسارا مستمرا؛ إذ اختفت (فرانس سوار) وتلتها صحيفة (تريبيون). وتسعى ال L'Humanité ، وبدرجة أقل، Libération لتجاوز خطر التوقف. بينما تحافظ كل من لوفيجارو ولوموند على نوع من الاستقرار. ويتوقع المختصون اختفاء لوموند وليبراسيون سنة 2029. وفي إيطاليا توقفت صحيفة (لونيتا) عن الصدور.
وعلى الرغم من عدم قدرة كثير من سكان الوطن العربي على الوصول للانترنت وامتلاك والحواسيب نلاحظ أن الصحافة الورقية في البلاد العربية قد انهارت في كثير من البلاد في وقت قياسي، وذلك بسبب غلاء الورق والأحبار وعدم قدرة الناس على شرائها، حتى وإن كانت مدعومة بشكل كبير من الأحزاب وكبار المتنفذين والمعلنين.
فمنذ مطلع العقد الثاني من هذه الألفية 2014، سجلت مؤسسات صحافية عربية تراجعاً حاداً في توزيع صحفها والحفاظ على عوائد الإعلانات. وعصفت الأزمة بمؤسسات إعلامية كبيرة؛ ففي سنة ٢٠٢٠ توقفت بشكل نهائي عن الصدور صحيفة (الحياة)، التي تأسست عام 1948. وأعلنت صحيفة (السفير) اللبنانية توقفها عن الإصدار نهائياً ، بعد 42 عاماً من الصدور. كما توقفت جريدة "البيرق" اللبنانية ، بعد مضي قرابة القرن على انطلاقها .
وفي 2017 ، أغلقت 50% من الصحف المصرية المحافظة على الصدور خلال 5 سنوات، مع تراجع توزيع الصحف من 2.5 مليون نسخة يومياً ، إلى 400 ألف نسخة. وأعلنت مجلة (الكواكب)، أحد أشهر وأقدم مجلة فنية محلية، توقف نسختها المطبوعة بعد 90 عاماً من صدور نسختها الأولى.
وفي المغرب، توقفت صحيفة (أخبار اليوم) عن الصدور بعد رحلة دامت 14 عاماً. وفي الجزائر توقفو صحيفة صحيفة (ليبرتي) اليومية الناطقة بالفرنسية، بعد 30 عاماً. ولحقت بها صحيفة (المجاهد الأسبوعي) و(المصير) الجزائرية. وفي تونس توقفت صحيفة (الأنوار). وفي السودان أعلنت أعلنت صحيفة (الأحداث) إفلاسها ثم توقفت عن الصدور. وفي موريتانيا توقفت صحيفة (أخبار نواكشوط) الأسبوعية.
وفي بلادنا ، لم يعد بإمكاننا أن نرى في ما تبقى من أكشاك اليوم غير ثلاث صحف يومية هي: (١٤ اكتوبر) و(عدن الغد) و(الأيام). أما صحيفة (الأمناء) فلا تظهر إلا ثلاثة أيام في الأسبوع. ولا تظهر صحيفة (٣٠ نوفمبر) إلا كل ثلاثاء وفي المكلا فقط. وجميع تلك الصحف تعاني من عدم إقبال القراء على شراء نسخها الورقية وارتفاع عدد النسخ المرتجعة من الأكشاك، ويبدو أن (عدن الغد) و(الأيام) يوزعن بشكل أفضل وتقل أعداد النسخ المرتجعة منها كل يوم خميس.
ولا شك أن الأزمات المختلفة التي تعصف بالصحف في بلادنا قد فسحت المجال لازدهار الصحافة الرقمية بمختلف أنواعها. ومن المؤسف أن انتشار الصحف والموقع الرقمية قد ساعد على انتشار الأخبار الزائفة والملفقة والموجهة وعدم قدرة أي جهة رسمية على مراقبة ما يبث فيها. وذلك على الرغم من حرص بعض الدول على دعم الصحف الورقية وجعلها وسيلة للحد من انتشار الأخبار الكاذبة والزائفة التي تبث في الصحف والمواقع الرقمية وسائل التواصل الاجتماعي.