التحرير اللاحق للترجمة الآلية (MTPE)

مسعود عمشوش

ذكرت في مقالة سابقة بعنوان (تطور سوق الترجمة) أن العقود الثلاثة الماضية شهدت زيادة في الاعتماد على التقنيات الرقمية والطرق المبتكرة لإنشاء النصوص والصور والمحتويات المختلفة، والتواصل وممارسة الأعمال التجارية في جميع القطاعات وبلغات متعددة في الوقت نفسه، وأن المترجمين الاحترافيين باتوا اليوم يواجهون منافسة شرسة من وافد جديد، وهو برامج الترجمة المعتمدة على الآلة (MT) والذكاء الاصطناعي (AI) الذي يشهد هو الآخر زيادة في الطلب عليه. فمع ارتفاع الطلب العالمي على الترجمة السريعة بات من اللازم الاستفادة من وسائل الترجمة الرقمية وبرامجها. لهذا دخلت الرقمنة والذكاء الاصطناعي بقوة في مجال الترجمة، وسط مخاوف من قدرتها على تعويض المترجم البشري. فاليوم تقدم برامج مثل (غوغل ترانسليت) (google translate)، و(مايكروسوفت ترانسليتور Microsoft Translator)، و(آي فلاتيك iFlytek)، نتائج باهرة في مجال الترجمة الآنية، لاسيما في كل ما يتصل بالمحتوى العام الذي يحتاجه المسافرون والسائحون أو متصفحو الإنترنت. ويمكننا القول إن الترجمة التي تعتمد على الآلة والذكاء الاصطناعي تضمن ترجمة نصوص كبيرة الحجم في وقت قصير، كما أنها تساعد المترجمين على زيادة إنتاجيتهم ومخرجاتهم اليومية في وقت أقصر، أي أن الترجمة الآلية، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، تتفوق كثيراً على أنماط الترجمة التقليدية من حيث السرعة وخفض الكلفة المالية.

ومع ذلك لا تزال الترجمة عالية الجودة بحاجة اليوم للعنصر البشري. ولذلك لا يزال مستخدمو الترجمة الآلية (MT machine translation) يلجؤون إلى تكليف مترجم بشري للعمل على مراجعة مخرجاتها وتصويبها وتحسينها وضمان الدقة والجودة المطلوبة. وهو ما أدّى إلى ظهور ما يسمى اليوم بالتحرير اللاحق للترجمة الآلية (MTPE machine translation post-editing) . 

لماذا وكيف نمارس التحرير اللاحق للترجمة الآلية؟

يعرف (التحرير اللاحق للترجمة الآلية: MTPE) بأنه عملية مزدوجة أو هجينة تتضمن استخدام برامج الترجمة الآلية ثم محررين بشريين يقومون بمراجعة مخرجاتها وتصويبها. ويكمن الهدف من MTPE في إنتاج ترجمة نهائية عالية الجودة وأكثر دقة وموثوقية مما يمكن أن تقدمه لنا الترجمة الآلية وحدها. ويمكن استخدام MTPE لترجمة أي نوع من النصوص، بما في ذلك المستندات القانونية والأدلة الفنية والمواد الترويجية. وهي مناسبة بشكل خاص للترجمات التي تتطلب السرعة ودرجة عالية من الدقة.

وقد أصبحت هذه العملية شائعة بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، حيث بدأت الشركات في إدراك فوائد استخدام الترجمة الآلية جنبا إلى جنب مع العنصر البشري المتخصص والمحترف. وبالطبع يستطيع أي شخص الاستفادة من وسائل الترجمة الآلية التي أصبحت اليوم متاحة بيسر في محركات البحث والمتصفحات الرقمية. لكن علينا الانتباه إلى أن مخرجات تلك الوسائل تظل تقريبية على الرغم من حسناتها الكثيرة. وفي الغالب لا يمكن تقديمها كما هي وثيقة رسمية أو علمية. وعلينا إخضاعها لعملية تمحيص وتدقيق وتصويب.

والسؤال المهم الذي يفرض نفسه هنا هو: من يستطيع أن يتولّى عملية المراجعة والتمحيص والتدقيق والتصويب؟ أي من الذي يستطيع ممارسة التحرير اللاحق للترجمة الآلية؟

هناك من يعتقد أن تحرير ترجمة عالية الجودة تتطلب متخصصا في اللغة الهدف التي تحرر بها الترجمة. وفي الحقيقة هذا لا يكفي أبدا؛ فممارس التحرير اللاحق للترجمة الآلية يجب أن يتقن اللغة الهدف واللغة المصدر معاً مثل أي مترجم بشري محترف، كيلا نقول إنه يجب أن يكون مترجما محترفا، إذْ أن عملية التحرير اللاحق للترجمة الآلية تبدأ بقراءة النص الأصل للترجمة ثم قراءة مخرجات الترجمة الآلية المراد مراجعتها وتصويبها. ولكي نمارس التحرير اللاحق للترجمة الآلية بشكل صحيح علينا أولا البحث عن برنامج ترجمة آلية يلبي احتياجاتنا الخاصة جيدا.

ثم تأتي عملية تأهيل المحررين وتدريبهم. وفي اعتقادي أن تأهيل وتدريب محرري مخرجات الترجمة الآلية يختلفان تماما عن الطرق المتبعة اليوم في تأهيل المترجمين العاديين، لاسيما الذين يختارون مساقات الترجمة بعد الثانوية العامة مباشرة. 

ففي ظل تدني مخرجات الثانوية العامة لا يبدو أن حامل هذه الشهادة يمتلك خلفية كافية في اللغة الأجنبية واللغة الأم تضمن إتقانه للغتين وتؤهله لممارسة تصويب مخرجات الترجمة الآلية. لهذا نرى أن خريج بكالوريوس اللغة الأجنبية المتمكن من لغته الأم هو الأقدر على التأهل السريع في مجال التحرير اللاحق للترجمة الآلية، الذي كما ذكرت سيشكل الجزء الأكبر من سوق الترجمة في المستقبل المنظور، وقبل أن يتم تحسين مخرجات الترجمة الآلية لدرجة تجعلنا نستغني عن أي تدخل بشري فيها. وهم ما نتوقع أن يحدث في مطلع العقد الثالث من هذه الألفية.

وعليه من الأفضل أن يتم تأهيل المحررين لمخرجات الترجمة الآلية لحملة بكالوريوس اللغات الأجنبية من خلال برامج ماجستير أو دبلوم الترجمة. ويمكن كذلك من خلال دورات عملية تدريبية مكثفة. وفي كل الحالات ينبغي أن تتضمن تلك البرامج تدريب في مجال التحرير والتصويب اللغويين في اللغتين معا، والتحليل التقابلي، وكثيرا من الممارسة العملية، وتقديم إرشادات حول كيفية تحرير النص المترجم آليا، والتعامل مع الأخطاء والتناقضات المرتبطة بمعضلة السياق واللبس اللغوي. 

فإذا كانت الترجمة الآلية تقدم لنا نتائج سريعة، فمخرجاتها تأتي في كثير من الأحيان أقل دقة ولا تناسب مع السياق جيدًا. ومن المعلوم أن الدلالة التي نقوم بترجمتها لا تتكوّن فقط من العناصر اللغوية بل تدخل في تكوينها عناصر سياقية ثقافية واقتصادية ودينية. وعلينا أن نضيف إلى شرط إلمام محترف الترجمة باللغتين، المصدر والأم، الإلمام كذلك بثقافة هاتين اللغتين. ويمكن أن تساعد برامج بكالوريوس اللغات الأجنبية الخريج على التعمق في ثقافة اللغة التي يتخصص فيها. 

إذن فالتحرير اللاحق للترجمة الآلية يعدّ مزيجا من الترجمة الآلية والترجمة البشرية. وفيه يقرأ المحرر/المترجم النص المصدر بدقة ثم يقرأ مخرجات الآلة ويقارنها بالنص المصدر لتحديد الأخطاء وتصويبها. ويجب على المحررين الاهتمام بالقواعد، وعلامات الترقيم، والإملاء، والأسلوب، والكلمات غير المترجمة، وأي ترجمة خاطئة محتملة للوصول إلى الصيغة النهائية للنص المترجَم. ويمكن أن يضعوا بعض الملاحظات في الهامش.

وأخيرا علينا أن نشير إلى أن هناك من يميّز بين نوعين من التحرير اللاحق للترجمة الآلية: التحرير الجزئي الذي يهدف إلى إنتاج نسخة مفهومة وواضحة من الترجمة الآلية، والتحرير الكامل الذي يهدف إلى أنتاج نسخة موثوقة ومطابقة للنص الأصلي ويمكن اعتمادها رسميا وعلميا. وعادة ما يتفق المترجم والزبون مسبقاً على نوع النسخة المراد تقديمها.