تمكين حضرموت = تمكين النظام والقانون
مسعود عمشوش
قبل بضعة أيام قرأت منشورا للأخ علي حسين عبده قال فيه: "الحضارم رجال نظام وقانون، يحترمون الحقوق ويحافظون على النظام في أي مكان يكونون فيه…".
وفي الحقيقة الحضارم مشهورون بحبهم للنظام والقانون والأمانة. ومن المسلم به أنهم استطاعوا أن ينشروا الإسلام في جنوب وشرق آسيا بتلك السمات وليس بقوة السلاح.
وخلال فترة الوجود البريطاني في الجنوب العربي لمس المستشارون البريطانيون هذه السمات في الحضارم. ففي سنة 2014 نشر ديك إيبرلي، الذي عيّنه المستشار تورنبول سكرتيرا له في عدن، كتابا مهما بعنوان (عدن، سقوط الستار، مذكرات 1965 - 1967) Aden, The Curtain Falls)، أكد فيه على عدم اضطرار البريطانيين لأي جهد لحفظ النظام في حضرموت، وكتب: "يتكوّن الجزء الشرقي الشاسع من الجنوب العربي من أربع ولايات تتمتع بالحكم الذاتي، وهي سلطنات القعيطي والكثيري والمهرة والواحدي. ويبدو أن شعوب محميات عدن الشرقية قد عانت كثيرا من المجاعة خلال الحرب، لكنها استفادت لاحقا من السلام والازدهار النسبيين والحكومة المركزية. ويتركز عمل الموظفين البريطانيين في سلطنتي القعيطي والكثيري على التنمية، بعكس ما يحدث في محميات عدن الغربية التي يركز الموظفون البريطانيون فيها على حفظ القانون والنظام".
أما الضابط البريطاني جون دوكر، الذي عمل مستشارا في المكلا فقد كتب سنة 2006 في (بلا مجد في شبه الجزيرة العربية: الانسحاب البريطاني من عدن WITHOUT GLORY IN ARABIA, The British Retreat from Aden)، فقد تحدث عن تميّز حضرموت عن بقية محميات عدن قبل 30 نوفمبر 1967، لاسيما فيما يتعلق بالأمن، الذي كان جيش البادية الحضرمي قد نجح في استتابه، "في الواقع كانت محميات عدن الشرقية منفصلة جسدياً ونفسياً عن عدن ومحميات عدن الغربية. وتبدو كأنها عالمٌ مختلفٌ. فبحلول سنة 1960، أصبحت محميات عدن الشرقية (EAP) تتمتع بحوالي 25 عامًا من التحسن الأمني، وهو ما مكّن الحكومة من إحداث تحسن مطرد في أدائها، على الرغم من أن الوسائل المتاحة ظلت محدودة للغاية؛ فلم يكن لدى حكومة صاحبة الجلالة سوى القليل جدًا لتبذله خلال فترة الحرب العالمية الثانية والسنوات التي تلتها. وكان جيش البادية الحضرمي، الذي كوّنه هارولد إنجرامز، أول مستشار مقيم في الأربعينيات من القرن الماضي، كقوة محايدة تمّ تجنيدها من جميع القبائل، بتمويل من حكومة صاحب الجلالة، مسؤولا أمام المستشار المقيم، وتم إشراكه تدريجياً في مهام الأمن الداخلي بجانب قوات الشرطة في السلطنة القعيطية والسلطنة الكثيرية، مع الاحتفاظ بجيش المكلا النظامي قوّةً احتياطية في حالة وجود تهديدات معينة في السلطنة القعيطية. وكان هذا الجيش يمتلك كتيبتين متمركزتين بشكل دائم في الصحاري الشمالية، على الحدود مع اليمن والمملكة العربية السعودية، وفرقاً أصغر في غيل بن يمين والمصينعة، وعلى الحدود بين وسلطنتي القعيطي والمهرة، وفي حديبو في جزيرة سقطرى، ويمكن نشرها في أماكن أخرى إذا استدعاء الأمر".
وكرر جون دوكر ما قاله ديك إيبرلي حول تكريس غالبية الميزانية المخصصة لحضرموت للأغراض التنموية بعكس ما يتم في المحميات الأخرى. فقد كتب: "في 1959/1960، كان يساوي حوالي ثلث ما يقدم للجنوب العربي بأكمله. بحلول عام 1966/1967، انخفض الإنفاق على الأغراض غير التنموية في محميات عدن الشرقية إلى واحد على اثني عشر. وكانت المبالغ المخصصة للتنمية في المحميات الشرقية خلال الفترة 1958 - 1965 تقدر بـ 1.01 مليون جنيه إسترليني؛ أما للسلطنات الأخرى المنضوية في اتحاد الجنوب العربي خارج عدن فقد بلغت 4.2 مليون جنيه إسترليني، وتمنح عدن ذات الإيرادات الأكبر بكثير بلغت مبالغ الدعم 1.22 مليون جنيه إسترليني. ومع ذلك، فقد ظلّ الأمن في محميات عدن الشرقية أفضل بكثير مما كان عليه في عدن أو المحميات الغربية حتى يونيو 1966). والواقع أننا اعتمدنا على علاقتنا مع الحكام ووثقنا بجيش البادية الحضرمي للسهر على أمننا. وحتى منتصف عام 1966، كانت الثقة في هذا الجيش في مكانها ومبررة".
ومن المعلوم أن جيش البادية الحضرمي قد وقف من منتصف 1966 إلى جانب فدائيي الجبهة القومية وأجبر بريطانيا على الانسحاب من حضرموت قبل انسحابها من عدن بنحو أربعة أشهر. ومع ذلك فقد تمّ القضاء على (أو التخلص من) معظم عناصر جيش البادية الحضرمي أولا في مؤتمر زنجبار للجبهة القومية سنة 1968 وفي الخطوة التصحيحية ثمّ من خلال الزج بها في الحرب مع السعودية بعد تلك الخطوة التصحيحية.
وبعد قيام وحدة 22 مايو 1990 تمّ إلغاء التجنيد العام وإسراع مشايخ ومتنفذي المحافظات الأخرى بتسجيل صغيرهم وكبيرهم في كشوفات الجيش. وتمّ إقرار السماح بتعاطي القات في حضرموت أ- لإفساد الحضارم ب- لتلبية حاجة القوات غير الحضرمية المرابطة بكثافة في حضرموت.
من المسلم به الحضارم قد شكلوا منذ القدم جزءا مهما من سكان ميناء عدن الذي كان علاقاته متينة بمينائي الشحر وبئر علي (قنا). وقد كتب الأستاذ الدكتور طه حسين هديل في دراسة له بعنوان (الحضارم في مدينة عدن ودورهم الاقتصادي في العصر الإسلامي): "كان للتواصل التجاري والعلمي بين حضرموت بمختلف مدنها وقراها وأوديتها ومدينة عدن في العصر الإسلامي دور كبير في توافد العديد من أبناء حضرموت إلى هذه المدينة التاريخية القديمة، لغرض العمل في أسواقها التجارية العريقة، أو الالتحاق بإحدى مدارسها أو مساجدها العتيقة التي ذاع صيتها في ذلك الحين في اليمن وخارجها، ومما لا شك فيه أن حصول الحضارم على غايتهم في عدن دفع ببعضهم إلى البقاء والاستقرار فيها، والعيش بين أهلها بعد اختلاطهم بهم عن طريق التزاوج والمصاهرة، أو الشراكة في المال والعمل والتعليم، وشكل من بقي في عدن عماد المجتمع العدني، وفئة أساسية فيه، إضافة إلى غيرهم ممن سكنها، لما ورد ذلك في بعض المصادر التاريخية التي عاصر مؤلفوها هؤلاء الحضارم، واختلطوا بهم في أثناء وجودهم فيها، ويعد المؤرخ الكبير ابن المجاور الدمشقي واحدًا من بين أهم الكتاب الذين عاشوا في عدن مدة من الزمن ليست بالقصيرة، واختلط بأهلها بمختلف فئاتهم من علماء وتجار وعمال وموظفين وطلاب وغيرهم، فأخذ في وصف الحضارم من بين هؤلاء على أساس أنهم هم السكان الأصليون لعدن، إضافة إلى غيرهم من الأقوام والأجناس التي عاشت في عدن؛ حيث عدَّ أن من ارتبط بعدن وعاش فيها وانتمى إليها بعمل أو دراسة أو رزق فهو من سكانها الأصليين، على الرغم من التنوع العرقي الذي كانت تعيشه هذه المدينة الضاربة جذورها في التاريخ".
ومن منا لم يسمع بما قام به كل من مخرمة والعيدروس وال بحرق وباحنان. وفي العصر الحديث ارتبطت نهضة عدن بكثير من الأسماء الحضرمية، مثل آل باحميش وآل مسلم وآل باعبيد وآل باجرش وآل بامشموس وآلا بلفقيه وآل محيرز.
وفي خمسينيات وستينيات القرن الماضي فضّل عدد كبير من الحضارم الذين كانوا قد هاجروا إلى إندونيسيا وسواحل شرق إفريقيا العودة مع رؤوس أموالهم الضخمة إلى عدن والاستقرار فيها، واستثمروا أموالهم في تشييد معظم العمارات الحديثة في شارع المعلا وأجروها أولا على الموظفين البريطانين والغربيين بشكل عام. وعشية الاستقلال وبعد أن سافر الغربيون أجروا معظمها على القادمين من خارج الجنوب. لكن سرعان ما صدر قانون التأميم. وحرم الحضارم من عماراتهم ولم يتحصلوا على أي تعويض يذكر حتى اليوم. بعكس الكثير من المستثمرين الآخرين في عدن.
ولا ننسى الدور الكبير الذي قامت به الكوادر الحضرمية، التي استقدمت من حضرموت إلى عدن يوم الاستقلال وكان لها دور كبير في تسيير كثير من الوزارات والمرافق الحكومية في عدن، مثل د. محمد عبد القادر بافقية أول وزير تربية، وعبد الله عبد الرزاق باذيب الذي أسس أول كليات جامعة عدن مع عبد القادر بافقيه، وسالم بكير وسعيد النوبان ومحمد سعيد العمودي وصالح باعامر.. وغيرهم. وشارك عدد من المهندسين مثل آل باسباع والعمال الحضارم لاسيما التريميون في تعمير عدن. وظل مكتب اتصال حضرموت الواقع في خور مكسر يسهّل التواصل بين حضرموت وأبنائها المقيمين في عدن إلى أن تمّ الاستيلاء عليه بعد حرب ١٩٩٤.
كما أن كثيرا من كبار التجار الحضارم قد تأثروا بإنهاء القطاع الخاص بعد ٢٢ يونيو ١٩٦٩. كما نهبت كثير من مصانع الحضارم خلال حرب ١٩٩٤ واستبيحت كثير من عقاراتهم وتم الاستيلاء عليها بذرائع مختلفة، واضطر بعضهم لدفع مبالغ خيالية تحت مسميات مختلفة لعل أبرزها: الحفاظة.
ولا شك في أن عدم الاستقرار وغياب احترام القانون وهيمنة قانون الحفاظة والنهب والبلطجة وكثيرا من الظواهر السلبية التي برزت في عدن بعد ١٩٩٠ واستفحلت بعد ١٩٩٤ جعلت كثيرا من الحضارم المشهورين بحبهم للنظام والقانون ينسحبون من عدن.
ويلاحظ اليوم الغياب شبه التام لتمثيل الحضارم في المجلس المحلي لمحافظة عدن بعد أن تم استبعاد كثير من الكوادر الحضرمية من مواقعها، وفي كثير من الحالات تحت مبرر عدم التزامهم الحزبي لاسيما بعد ١٩٩٤. وفي الواقع عانت بعض الكوادر الحضرمية من تلك (التهمة) حتى قبل ١٩٩٠؛ مثلاً استبعد د. سعيد النوبان سنة ١٩٨١ من رئاسة جامعة عدن بتهمة عدم التزامه لتعليمات الحزب الاشتراكي اليمني.
وللإنصاف هناك عوامل أخرى حدّت من إقبال الحضارم على الاستقرار في عدن. منها التطور الكبير الذي شهدته مدن حضرموت، لاسيما المكلا وسيؤن التي أسست فيها جامعات ومستشفيات خاصة وحكومية تمتلك إمكانيات ونظم أفضل من تلك الإمكانيات المتوفرة في عدن، حتى أن كثيرا من أبناء المحافظات المجاور، بل ومن أبناء عدن، يفضلون اليوم الذهاب إليها للدراسة أو العلاج.