29 نوفمبر، ذكرى جلاء آخر جندي بريطاني من الجنوب
مسعود عمشوش
متى تمّ جلاء آخر جندي بريطاني من الجنوب؟
ومتى علينا الاحتفال بذكرى الجلاء؟
ومتى علينا الاحتفال بذكرى إعلان الاستقلال؟
في مطلع 1966 أعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من الجنوب العربي بحلول 1968. وفي مارس 1967، طرح وايتهول فكرة تقديم موعد الاستقلال لمدة شهرين أو ثلاثة أشهر، ودعا القادة الوطنيين في عدن إلى منطقة محايدة للسعي للتوصل إلى تسوية مؤقتة، مع توفير الحماية البريطانية للأشهر القليلة اللاحقة.
وكتب الباحث فانراج شيت في كتابه (الجنوب العربي): "بعد أسبوع واحد من إعلان لندن – في مايو 1967- قرارها الانسحاب من الجنوب تغلبت الجبهة القومية على مقاومة جبهة التحرير والقوات الشعبية، وذلك إثر معارك جبهوية وفصائلية عنيفة. وتم ترتيب اجتماع بين بريطانيا وزعماء الجبهة القومية في جنيف عبر وساطات الجيش. وتحت ضغوط الأحداث، تمّ التوصل إلى اتفاقية مع الجبهة القومية بشأن سلامة الأجانب والمساعدة البريطانية لدولة الجنوب العربي المستقل. وبسبب الذعر الشديد الذي انتاب البريطانيين، فقد أكملت سحب قواتها قبل عودة زعماء الجبهة القومية من جنيف بعد المفاوضات التي دامت أسبوعاً. وبرزت إلى الوجود دولة الجنوب العربي المستقلة بعد عودة زعماء الجبهة القومية في ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧، أي بعد يوم واحد من مغادرة آخر بريطاني البلاد".
وفي الفصل الأخير من كتاب (Humphrey Trevelyan, The Middle East in Revolution الشرق الأوسط في ثورة): (جلاء القوات البريطانية بسلام وتشكيل حكومة إن أمكن)، كتب السير همفري، آخر مندوب سامي بريطاني في عدن،
"لقد وصلتُ إلى عدن في ٢٠ مايو ۱۹٦٧، للقيام بما اعتبره الجميع مهمة مستحيلة. وقد لخّص هارولد ويلسون لي الوضع بعد وصولي بعدة أيام، وأخبرني أن مهمتي تكمن في: -إجلاء القوات البريطانية ومخازن الأسلحة بسلام، بما في ذلك تلك المخازن التابعة للمركز الرئيسي لقيادة الشرق الأوسط، -وترك، إن أمكن، ورائي حكومة مستقلة يمكن أن تضمن إحلال السلام والاستقرار في دولة الجنوب العربي الصغيرة، تلك الدول الفقيرة للغاية، التي مزقتها الثورات والحروب القبلية الطويلة".
وكتب: "وبمجرد أن أصبحت المناطق التي تشغلها محميات عدن الشرقية غير آمنة لم يعد بمقدورنا ترك البريطانيين هناك، لا سيما بعد أن أصبحت الاتصالات بالطائرات المروحية غير مضمونة كذلك. وتمّ أيضا تفكيك قاعدة سلاح الجو الملكي R.A.F في الريان، التي كانت موجودة منذ أربعين عاماً، ولم يعد هناك بريطانيون في شرق الجنوب العربي. وحينما عاد سلاطين المحميات الشرقية للمكلا بحراً قابلتهم الجبهة القومية ولم تسمح لهم بمغادرة السفينة، فعادوا إلى المملكة العربية السعودية، وقد أسفنا لذلك على الرغم من أن السلاطين الشرقيين ربما كانوا محظوظين لعدم وجودهم هناك عندما تولت الجبهة القومية زمام الأمور في المكلا.
لقد أصبحت الجبهة القومية الآن تسيطر على الأقل على جزء من المحميات الشرقية، ولم يكن لدينا بديل لها يستطيع الحفاظ على السلام في تلك المحميات الشرقية حتى موعد رحيلنا. وسنستمر في سداد رواتب أفراد جيش البادية الحضرمي، الذين، في الوقت ذاته، كيفوا أنفسهم لخدمة النظام الجديد، وبدون أي صعوبة. وعلى الرغم من أن مساعدتنا قد توقفت عند الاستقلال فقد استمر تدفق الأموال إلى تلك البقاع...
وفي ١٢ سبتمبر 1967، بدأنا تسليم الأمن الداخلي في منطقة عدن، ونقلنا المسئوليات في عدن الصغرى ومصفاة شركة البترول البريطانية لجيش الجنوب العربي. وكان عملنا هذا مبرراً. ولم تبرز متاعب أخرى. فبعد أثنى عشر يوماً سلمنا ضواحي الشيخ عثمان والمنصورة، التي شهدت قتالا ضاريا بين فصائل المقاومة، التي كانت في الوقت نفسه مسؤولة عن الأمن هناك. وبالنسبة لنا لم نرغب في توريط القوات البريطانية في ذلك القتال. وقد اندلع القتال مرة أخرى بعد أن تولى الجيش العربي المسؤولية. ولكنهم نجحوا في إيقافه بواسطة تشكيل لجان ثلاثية من الجيش وجبهة التحرير والجبهة القومية.
وهكذا انسحبت القوات البريطانية الآن من نصف عدن، ولم يعد هناك أي شك في أذهان العرب أننا سنرحل حقاً، لأن معسكر الاعتقال الرئيس في المنطقة كان قد سلم بالفعل، وأطلقنا سراح جميع المحتجزين باستثناء نحو ثلاثين منهم ظلوا محجوزين في منطقة تحت سيطرتنا حتى غادرنا. وسمعنا بشيء من الرضا أن الصليب الأحمر الدولي، الذي كان يركز جهوده علينا، كلف مندوبيه ببدء التحقيق في معسكرات الاعتقال التي أنشأت الآن بواسطة الجبهة القومية لحجز خصومهم...
وفي ذلك الوقت حاولت جبهة التحرير العودة إلى المحميات الغربية بدعم من اليمن، لكن الجبهة القومية هزمتها، وعززت مواقعها في جميع تلك المحميات. وبات من الواضح أن الوضع يتحرك الآن لصالح الجبهة القومية، وقد ساعد على ذلك نتيجة الاتفاق المصري السعودي الذي تمّ التوصل إليه في مؤتمر زعماء العرب بالخرطوم، والذي يتم بموجبه انسحاب القوات المصرية من اليمن. وكان مما يدعو للسخرية حقا أنه بات علينا، نحن والمصريين، أن نغادر الجنوب العربي في الوقت نفسه، وبعد كل الذي حصل. وبدأ المصريون فعلا انسحابهم، وفقدت جبهة التحرير مؤازريها من رجال حرب العصابات وقواعدها ومصادر إمداداتها....
كان المفروض أن تعقد المفاوضات في جنيف في ١١ نوفمبر بقيادة اللورد شاكلتون. وكانت هناك مؤشرات كثيرة تشكك في نجاح هذا المؤتمر. ولم يكن هناك شيء نود الاحتفاظ به في عدن، فقد كنا قد نقلنا جميع مخازننا منها. وكان من الأفضل لنا الرحيل في أسرع وقت ممكن. واقترحنا على الجبهة القومية، بوساطة الجيش، أن تبدأ المفاوضات في ١٦ نوفمبر، ووافق الجيش، ولم توافق الجبهة القومية على التاريخ، ولم يستطع ممثلوها الوصول إلى جنيف إلا بعد العشرين من الشهر. وكان من الصعب البقاء هناك أكثر من ذلك. وأصبح علينا التوفيق بين خطر البقاء عشرة أيام أخرى، يمكن أن يتغير الوضع خلالها فجأة إلى الأسواء، وبين الشك بأنهم يرغبون فعلا في المفاوضات في الوقت الذي لا يزالون يحتفظون فيه برهائن على الأرض. وهناك احتمال أنه إذا ما تمسكنا بالرحيل قبل ذلك قد يرفضون التفاوض لاسيما إذا ما شكوا أننا نحاول المغادرة حتى بدون الوصول لأي اتفاق معهم. وقد قلنا إننا سنغادر في نهاية نوفمبر، وبعد النظر في ذلك بدا لنا أنه من الحكمة أن نمدد بقاءنا في جنيف أياما قليلة أخرى...
لقد عُقدت عدد من المؤتمرات حول مستقبل الجنوب العربي، وفشلت كلها، والآن أخيرا تحت ضغط الأحداث نجحت هذه المفاوضات. ولو أتيح لها المزيد من الوقت ربما لكانت قد فشلت أيضا. وفي نيويورك أصدرت بعثة الأمم المتحدة تقريرها متهمة البريطانيين بارتكاب عدد من المخالفات. لكن لم يقرأ أحد هذا التقرير الذي تجاوزته الأحداث.
وعندما وصلتُ [من جنيف] إلى عدن كانت القضية الساخنة هي المعتقلون، وقانون حالة الطوارئ. وكما أوضحنا قمنا بإطلاق سراح عدد من المعتقلين على دفعات حسب الظروف، حتى أطلق سراحهم جميعاً، بمن فيهم إرهابيون تابعون لجبهة التحرير تولى الصليب الأحمر مهمة نقلهم إلى القاهرة، لمنع تعرضهم للقتل من قبل الجبهة القومية. وقبل أيام من رحيلنا بادرنا إلى إلغاء العمل بقانون حالة الطوارئ، واستبدلناه بقانون يتناسب أكثر مع الأيام الأخيرة من وجودنا. وغادر من تبقى من ضباط المخابرات التابعين لنا، الذين قد يكونوا هدفا للإرهابيين المطلق سراحهم.
لقد تصرفنا حسب ما يتناسب مع ظروفنا، ولم نرضخ يوما لأي ضغط من الجماعات السياسية داخل البلاد أو خارجها لإطلاق سراح المعتقلين أو إلغاء القانون الذي اعتقلوا على أساسه.
وفي الأيام القليلة الأخيرة من وجودنا كان لي شرف استعراض الأسطول الموجود في ميناء عدن لتغطية جلائنا في ۲۸ نوفمبر. وغادر قائد الأركان وأنا كذلك، بعد أن ودعت في المطار كبار ضباط الجيش العربي والشرطة برفقة الموظفين المدنيين العرب.
وفي ۲۹ نوفمبر غادرت آخر دفعة من القوات البريطانية. وقد تمّ ذلك كله في هدوء تام. وغادرت كذلك قوات قيادة الشرق الأوسط في طائرة مروحية كاد أن ينفذ منها البنزين وهي في طريقها إلى السفينة. وعاد إلى السفارة الوليدة جميع العاملين فيها وكانوا من المتطوعين. لقد كانت تلك اللحظات عصيبة حقا على الرغم من وجود حاملة الطائرات (كوماندوز)، التي كانت مستعدة لترحيل الأجانب إذا ساءت الأمور.
وفي اليوم التالي عاد الرئيس قحطان الشعبي ووفده إلى عدن في طائرة (شارتر) كان طاقمها قد أبلغ بعدم التوقف في أي مكان في الشرق الأوسط غير بيروت أو أسمرا. فقد كانت الجبهة القومية لا تزال غير واثقة في المصريين. وظهرت في الوجود جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بدون أصدقاء، ووعد بتقديم مساعدات مؤقتة. وكان عليها تلبية أكثر من ثلث المصروفات السابقة بمواردها المحلية".
يبدو لي أن تاريخ جلاء آخر جندي بريطاني من الجنوب يقع بين 28 و29 نوفمبر 1967 أما 30 نوفمبر فهو تاريخ إعلان الاستقلال.
المصدر: مسعود عمشوش (تاريخنا الذي لم نكتبه، نصوص البريطانيين حول الجنوب العربي، 2023)