اليمن ذلك المجهول والحياة فيه بين (المعقول) و(اللامعقول)!!
"اليمن ذلك المجهول"، هو عنوان كتاب للكاتب المصري أنيس منصور، كتَبَه عندما زار اليمن في منتصف القرن الماضي، وأظن لو امتدّ به العمر، وزار اليمن هذه الأيام، لصار عنوان كتابه "اليمن ذلك البلد الذي يغتاله المجهول"، وهذا ليس غريباً؛ ففي اليمن لا يزال المجهول فاغراً فاه منذ ذلك الزمن. لذا، يا صديقي، لا تأخذ الحياة في اليمن على مأخذ الجد، لأنّها صارت سمجة بكل المقاييس، وتعال معي وتَفكّر إن ظلّ لك عقل:
(الأول) كتب / عبد الحفيظ العمري:
ألا تجد أنّ الكذب هو السائد، والتطبيل هو الأصل، والناس في ضيقٍ شديد، والحياة بلا ملامح، والمستقبل مجهول، كما أصبح اليوم عبئاً على المرء في اليمن، يريد أن يرميه في أيّ حاوية قمامة قريبة.
وأمّا الدين، فقد صار دكان برتقال لكلِّ ناعقٍ يجيد الكلام المعسول عن الآخرة، ترهيباً وترغيباً. أيضًا، المدارس معطّلة لا تُعلّم شيئاً، والجامعات ستلحق بالمدارس قريباً، والمستشفيات مسالخ قصّابين، والمقابر مزدهرة وتقول هل من مزيد، ولا يهمها سبب المجيء، والمناصب محلّ التنازع والتنافس لمَنْ يقدّم الولاء لا الكفاءة.
الكذب هو السائد، والتطبيل هو الأصل، والناس في ضيقٍ شديد، والحياة بلا ملامح، والمستقبل مجهول
وبعد كلِّ هذا وغيره الكثير، الذي لم نتحدّث عنه، ألا تصبح الحياة في اليمن نكتة سمجة طويلة الأمد؟!
الميلودراما اليمنية شيء آخر؛ فكلُّ يوم معنا مفاجأة أو ربّما مفاجعة. نحن أمام فيلم أكشن ممل، لكن الكارثة تكمن أنّه يجب عليك أن تعيشه، وليس مجرّد أن تتفرّج عليه.
لدينا هنا كلُّ ما يسرّكم، ما لذّ وطاب، من أخبار الكتل والأحزاب، الفاتحين جرحنا دكان برتقال، وموز وتفاح، بل حديقة كاملة!
لا نتحصّل على شيءٍ سوى العتمة، وكأنّ ليل اليمن الساكن لا ينتهي
وهكذا صار اليمن ألعوبة الزمن الجديد، فيها، كما يقول الكاتب المصري الساخر، جلال عامر، "ناس عايشة كويس، وناس كويس إنها عايشة!". فنحن على هذه الأرض نعيش رواية أورويل الدستوبية (1984) بكلِّ حذافيرها؛ لأننا في زمان بلا نوعيّة كما قال شاعرنا عبدالله البردّوني:
نحن شعب مهزوم على أرضه وبين جمهوره، كما يقول الساخر جلال عامر، لذا نتسلّى بأي كذبةٍ نصنعها لأنفسنا؛ بيوم الأغنية اليمنية، بعيد الغصن، بعيد... إلخ. المهم أن نلهو، أو نغوص في غيبوبة تلهينا عن واقعنا المرير.
هكذا نحن، نصحو لكي نبحث عن أدوات الغيبوبة: القات، الكرة، الجدل... إلخ. وأيّ شيء آخر، ولو كان تافهاً، المهم أن يمنع التفكير في حالنا المزرية. ولذا لا تستغرب إذ صار "فيسبوك" ملاذاً لنا لننفّس عن ما في الصدور من لواعج، ولو كانت لامعقولة ولامنضبطة. وأقول: لامنضبطة في زمنٍ صار الانضباط من المستحيلات الثلاثة أو الأربعة. لقد صار "فيسبوك" غيبوبة هو أيضاً، أو ميداناً لعرضِ الغيبوبات المتنوّعة.
في كلِّ صباح لسان حالنا، ليس كما يقول حليم "نبتدي منين الحكاية"، بل نقول: نبتدي منين الغيبوبة. إنّها غيبوبة اختيارية صاغتها أوهامنا لكي نعيش، وكأنّ لسان حالنا يقول: "غيبوبة جميلة خيرٌ من واقع مرير"! أليس هذا ما يحدث؟ حيث نجد أنّ كلَّ صباح جديد على هذه الجغرافية المنسية ليس سوى صباح رتيب.
نواجه الوجوه نفسها، الهموم نفسها، أو قد يتفنّن الوضع الرّديء في استحداث هَمٍّ جديد يُضاف إلى جملة الهموم المتراكمة. وبالتالي لا نتحصّل على شيءٍ سوى العتمة، وكأنّ ليل هذا البلد الساكن لا ينتهي.
لو استمرت هذه الهرولة إلى الماضي، فهل سنصحو يوماً لنقابل الديناصورات في شوارعنا؟
هذا أنت، ذلك الشخص الذي يعيد الخطوات نفسها كلَّ يومٍ في خوارزمية مُملّة، وكأنّ المبرمج أعاد نسخ "الكود" من جديد. لا عجب، فقد صارت حياتنا برنامجاً يدور في حلقة مفرغة. فمنْ يكسر هذا الروتين؟ بلد تبلّد حتى الثمالة، فهل توقف الزمن في اليمن؟
لا أظن، لكنه يسير القهقرى نحو غابر الماضي البليد، فقد دارت أسطوانة الفيلم رجوعاً في فانتازيا لم يبدعها حتى الكاتب أحمد خالد توفيق نفسه. لذا أقول: لو استمرّت هذه الهرولة إلى الماضي، فهل سنصحو يوماً لنقابل الديناصورات في شوارعنا؟
مَنْ يدري؟ ربما تقرّر هوليوود إعادة تصوير فيلم "الحديقة الجوراسية" في شوارع صنعاء، أو يصبح اليمن قاطبةً حديقة حيّة لمنقرضاتِ البيولوجيا.
أخيراً، جاء في كتب التاريخ أنّ الإمام الشافعي، رضي الله عنه، تعلّم علمَ الفِراسة في اليمن، بل وحمل كتبها معه قبل أن يغادر. إن كان هذا حدث حقاً، فأين علم الفِراسة اليوم عند اليمنيين؟ ألم يتفرَّسوا في أحوال دهرهم أم افترستهم نوائبُه؟