هل تعلن واشنطن وتل أبيب الحرب ضد الحوثيين بعد تهديدهم بمنع تجارة إسرائيل من المرور بالبحر الأحمر؟ تقرير مفصل
جاء إعلان الحوثيين أنهم سيعملون من الآن فصاعداً على منع أية سفينة، سواء كانت إسرائيلية أو غير إسرائيلية من شق طريقها عبر البحر الأحمر باتجاه إسرائيل، طالما أنَّ الأخيرة لا تسمح بنقل المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ليمثل مشكلة كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ويهدد بعزل الدولة العبرية عن التجارة الدولية.
وهددت إسرائيل برد عسكري تجاه الحوثيين في حال عدم وجود رد أمريكي، ولكن يبدو أن التركيز الإسرائيلي هو في تحريض أمريكا على ضرب الحوثيين، بدلاً من أن تتورط هي في المعركة.
إذ قالت صحيفة Haaretz الإسرائيلية إن قرار منع مرور السفن المتجهة لإسرائيل يرفع التهديد الحوثي إلى مستوى استراتيجي دولي (رغم أنه في حقيقة الأمر تهديد لإسرائيل فقط وليس بقية العالم).
وفي لهجة تحريضية واضحة قالت إنه إذا تحقق ذلك، فإنه سيتطلب تنظيماً ورداً لا يقتصر على مجرد ضرب أهداف محددة في قواعد الحوثيين أو تنفيذ عمليات تخريبية موجهة في العاصمة صنعاء مثل التي أُبلِغ عنها في الأيام الأخيرة.
ومن الممكن أن تضع رسالة الحوثيين هذه البحر الأحمر في قلب حالة تأهب، وربما حتى مواجهة عسكرية واسعة النطاق، إذا تبيَّن أنَّ الوجود العسكري الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة يفشل في ردع التهديد، وفقاً لصحيفة Haaretz.
وتقول الصحيفة إنه "من المحتمل أن تكون هناك حاجة إلى استعراض كبير للقوة في المستقبل القريب، وهو استعراض لا يمكن أن ينتظر لحين إنشاء القوة البحرية الدولية التي تسعى الولايات المتحدة إلى تأسيسها في المنطقة".
مرور سفن إسرائيل في البحر الأحمر مقابل وقف إطلاق النار
وتقوم السفن الحربية الأمريكية بالفعل بحماية الملاحة في المنطقة، حيث تحاول التصدي للصواريخ والمسيّرات الحوثية التي تستهدف إسرائيل أو سفنها، كما شاركت فرنسا في عمليات مماثلة، ولكن اللافت أن الأمريكيين لم يردوا بقصف أهداف حوثية، رغم أن سفنهم تحوم حول ساحل اليمن.
وقال مسؤولون عسكريون أمريكيون إنهم يدرسون تعزيز حماية السفن التجارية حول طريق الشحن الحيوي في البحر الأحمر، وسط سلسلة من الهجمات الصاروخية الحوثية الصاروخية.
البحر الأحمر
زوارق الحوثيين ترافق سفينة الشحن جالاكسي ليدر المملوكة لرجل أعمال إسرائيلي في البحر الأحمر/ صورة صادرة في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 عن الإعلام العسكري الحوثي نشرت عبر رويترز
في خطاب ألقاه مؤخراً، دعا ليون بانيتا، الذي شغل سابقاً منصب وزير الدفاع الأمريكي، إلى انتهاج نهج أشد عدوانية تجاه وكلاء إيران. ولكن، آخر ما سوف يرغب البيت الأبيض أن يُجرّ إليه، هي الحرب الأهلية في اليمن، التي تبذل الإدارة جهوداً حثيثة مؤخراً من أجل نزع فتيلها، حسبما ورد في تقرير نشر بمجلة The Economist البريطانية.
وجاءت تهديدات الحوثيين باستهداف السفن المتجهة لإسرائيل رداً على حق النقض الذي استخدمته الولايات المتحدة لوقف تمرير مشروع القرار في مجلس الأمن الذي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة ولإظهار الازدراء للنية الأمريكية لإنشاء قوة متعددة الجنسيات في البحر الأحمر.
لكن الصحيفة الإسرائيلية ترى أن التهديد الحوثي يعتمد أيضاً على الشعور بالأمان نتيجة المكابح السياسية التي قد تؤخر أي رد أمريكي حاد.
لماذا لا ترد أمريكا على هجمات الحوثيين البحرية؟
بحسب تقارير لوكالتي Reuters وBloomberg، فإنَّ السعودية هي التي تضغط الآن على الإدارة في واشنطن "لضبط النفس" في ردود أفعالها على الحوثيين من أجل السماح بإكمال اتفاق السلام بين السعودية والحوثيين من جهة، وبين الحوثيين والحكومة اليمنية المُعترَف بها من جهة أخرى.
وقال المتحدث باسم الحوثيين ورئيس وفدهم التفاوضي محمد عبد السلام، يوم الجمعة 8 ديسمبر/كانون الأول، إنه تم التوصل إلى مخطط متفق عليه بوساطة عمانية يفضي إلى وقف رسمي ودائم لإطلاق النار ومن ثم انتهاء الحرب. ويتضمن هذا المخطط، الإفراج المتبادل عن السجناء المحتجزين لدى الحوثيين والحكومة اليمنية، ودفع رواتب المسؤولين اليمنيين الذين يعملون في حكومة الحوثيين، ورفع الحصار عن ميناء الحديدة وفتح مطار صنعاء، وانسحاب كافة القوات الأجنبية من اليمن، أي القوات السعودية، ولاحقاً فتح المفاوضات بين حكومة الحوثيين والحكومة اليمنية حول إنشاء هيئة حكومية مشتركة تعمل على التحضير للانتخابات العامة -وذلك من بين أمور أخرى. ولا يزال من السابق لأوانه الترحيب بالنتيجة النهائية، لكن يبدو، على الأقل حتى الإعلان المكتوب عن الحصار الذي يعتزمون فرضه على البحر الأحمر، أنَّ الاتفاقيات التي توصل إليها الطرفان لديها فرصة جيدة للتحقق.
ومن المخاوف السعودية الأخرى، أنَّ الهجوم الأمريكي على الحوثيين يمكن أن يضر بالعلاقة بين الرياض وطهران، على وجه التحديد في الوقت الذي يستعيد فيه البلدان علاقاتهما ببطء بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما في مارس/آذار من هذا العام. وهذا هو السبب أيضاً وراء عدم استعجال المملكة العربية السعودية للرد بالإيجاب على طلب الولايات المتحدة الانضمام إلى قوة متعددة الجنسيات تطمح إلى تشكيلها لضمان سلامة الملاحة في البحر الأحمر. والمفارقة هي أنَّ الولايات المتحدة، التي كانت تدفع نحو إنهاء الحرب في اليمن وحتى جمدت مبيعات الأسلحة إلى السعودية التي ساعدتها في الحرب، قد تبدأ هي نفسها الآن حرباً ضد الحوثيين.
وهذه الاعتبارات ليست بعيدة عن أعين الحوثيين الذين ربما يعتقدون أنَّ الورقة السياسية التي يحملونها في أيديهم قوية بما يكفي لتنفيذ الحصار في البحر الأحمر دون تكبد ثمن باهظ.
ولقد نشروا بالفعل بطاريات صواريخ روسية على طول البحر الأحمر لأغراض أمنية، ووفقاً لتقارير من اليمن، يمتلك الحوثيون طائرات ميغ وسوخوي روسية استولوا عليها من الجيش اليمني.
اليمن كان دوماً مقبرة للجيوش
ولكن في الأغلب فإن تجنب أمريكا للرد على الحوثيين لا تقتصر أسبابه فقط على الضغط السعودي، ولكن بسبب الوضع الجغرافي لليمن وطبيعة الحوثيين العسكرية.
إذ يعد اليمن واحداً من أكبر بلدان العالم وعورة، وفي الوقت نفسه يحتل موقعاً استراتيجياً نادراً لا ينافسه فيه سوى قليل من دول العالم تجعل من يسيطر عليه قادراً على تهديد 10% من التجارة العالمية التي تمر عبر البحر الأحمر.
البحر الأحمر
حاملة طائرات أرسلتها أمريكا إلى الشرق الأوسط بعد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس/رويترز
والحوثيون يعدون فصيلاً دينياً ينتمي للشيعة الزيدية وهو متأثر بإيران وهم ينتمون لأكثر قبائل اليمن صلابة في القتال، وتحرّكهم عقيدة دينية تجعلهم يرون أنفسهم أسلاف الرسول والأحق بحكم اليمن، مع أيديولوجيا تتسم بعدم الهيبة من الموت، وتعلي من قيم الشهادة على غرار الثورة الإيرانية ونموذج حزب الله.
ويتحصن الحوثيون في مواقع جبلية وعرة، وفشل التحالف العربي الذي كان يضم في وقت ما السعودية والإمارات على مدار أكثر من خمس سنوات في تدمير قدرات الحوثيين العسكرية رغم أن لديه مجموعة من أفضل المقاتلات الغربية، وكانت الولايات المتحدة تزوده بالذخيرة والوقود وفي الأغلب بالمعلومات.
وبالتالي قد يؤدي ضرب أمريكا للحوثيين لتورطها في حرب بلا جدوى ويصعب كسبها وقد تجد نفسها غارقة في المستنقع اليمني الذي قد يكون أسوأ من الفيتنامي والأفغاني، وقد تظل في الوقت ذاته غير قادرة على وقف تهديدات الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر.
إسرائيل تعطي مهلة للغرب وإلا ستبادر بالتحرك وحدها
على الصعيد الإسرائيلي، قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي للقناة 12 الإسرائيلية، السبت، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تحدث مع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، والقادة الأوروبيين حول استهداف الحوثيين للسفن التجارية ذات الروابط الإسرائيلية المزعومة، وأبلغهم أن "إسرائيل تمنح العالم بعض الوقت لتنظيم صفوفه من أجل منع ذلك. لكن إذا لم يكن هناك ترتيب عالمي، لأنها قضية عالمية، فسنتحرك من أجل رفع هذا الحصار البحري"، حسب تعبيره.
ولكن هل يمكن لإسرائيل أن تهزم الحوثيين الذين يبعدون عنها آلاف الكيلومترات، وهي أصلاً غارقة في مستنقع غزة.
يبدو أنه رغم كل تهديدات إسرائيل، فإن تجارب دول متعددة بدءاً من الدولة العثمانية ومصر الناصرية وصولاً للسعودية والإمارات تؤشر إلى أن من السهل التورط في حرب باليمن ولكنْ ليس من السهل إنهاؤها.
في المقابل، فإن تهديد الحوثيين يمثل خطورة حقيقية على إسرائيل.
إسرائيل دولة محاطة بالأعداء حتى لو أبرمت سلاماً مع بعضهم؛ ولذا معظم تجارتها الخارجية لا تأتي من البرّ، بل عبر البحار التي تأتي منها 98% من تجارة البضائع الإسرائيلية، كما أن أغلب تجارتها الخارجية مع دول آسيا؛ أي عبر البحر الأحمر.
وهناك بعد مالي كبير لهجمات الحوثيين، إذ قد تؤدي إلى ارتفاع أقساط التأمين على السفن التي تحمل البضائع إلى إسرائيل. وتضررت أسهم شركة الشحن الإسرائيلية "زيم" من ذلك منذ اندلاع الحرب، ويتم تداولها اليوم بسعر منخفض مقارنة بنظيراتها العالمية، على الرغم من أن حصة صغيرة فقط من أسطولها تمر عبر قناة السويس.
ولذا يمكن اعتبار تهديد الحوثيين واحداً من أكبر الملفات الضاغطة على إسرائيل وأمريكا، في الحرب على غزة، فترك الحوثيين يهاجمون التجارة الإسرائيلية يهدد الدولة العبرية بمشكلة اقتصادية كبيرة، ومن ناحية أخرى التورط معهم في قتال، قد ينتهي بجرب زئبقية تقصف فيها إسرائيل أو أمريكا صخور اليمن بلا جدوى.
أقوى دولة في العالم تعاني من التحرش الإيراني في العراق
ولا يقتصر المشاكل التي تسببها أمريكا لإسرائيل على اليمن فحسب، بل إنَّ الحرب في غزة تشكل تحدياً خطيراً لأقوى قوة في العالم، وهو التحدي الذي قد يُغرِقها في حرب استنزاف ضد القوات القبلية أو الميليشيات ذات القدرات العسكرية المحدودة في سوريا والعراق تحديداً.
فبعد أقل من أسبوع من الهجوم الأمريكي على موقع طائرات بدون طيار تديره الميليشيات الشيعية في العراق، وصل الرد.
يوم الجمعة 8 ديسمبر/كانون الأول، أُطلِقَت ست قذائف هاون على مجمع السفارة الأمريكية في بغداد، ونُفِّذَت خمس هجمات أخرى على أهداف أمريكية في سوريا. ولم تعلن أية منظمة مسؤوليتها عن الهجمات، لكن الولايات المتحدة تنسبها إلى ميليشيا "حزب الله العراقية" وميليشيا النجباء، اللتين تمولهما وتدربهما إيران وهما "مسجلتان" بالفعل ضمن فيلق القدس التابع للحرس الثوري.
وبالنظر للصورة الأكبر، نجد أكثر من مئة وخمسين ميليشيا تشكلت في المنطقة، ما بين مليشيات معارضة للتبعية الاقتصادية والاستراتيجية بين العراق وإيران، وميليشيات موالية للمرشد الروحي الشيعي علي السيستاني، وميليشيات أخرى تعمل وفق إملاءات القادة السياسيين الشيعة الذين لا يخضعون بالضرورة للإملاءات الإيرانية (ومن بين هذه ميليشيات سُنية عاملة أيضاً). ومع ذلك، فإنَّ الغالبية العظمى من الميليشيات يوحدها قاسم مشترك واحد: وهو الرغبة في إخراج القوات الأمريكية، حوالي 2000 جندي ومدرب من أراضي العراق. ومن هنا اضطرت الولايات المتحدة إلى اتخاذ خطوات صعبة عند اختيار طريقة الرد وموقعه على الهجمات التي يشنها رجال الميليشيات ضدها. إنَّ استهداف ميليشيتين محددتين ليس من قبيل الصدفة والمقصود منه هو التوضيح لبقية الميليشيات ولإيران أنَّ هذه ليست حرباً أمريكية ضد البنية التحتية للوجود الإيراني في العراق، بل عمليات استئصال ضد التنظيمات التي تلحق الضرر بأهداف أمريكية، برغم أنَّ هذه الميليشيات تتبع إدارياً أيضاً لوزارة الدفاع العراقية.
ويمكن مقارنة المعضلة الأمريكية في العراق إلى حد كبير بتلك التي ميزت الرد الإسرائيلي ضد المنظمات الفلسطينية قبل الحرب في غزة، عندما ركزت هجماتها على حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، حتى عندما أوكلت المسؤولية الشاملة عن الحفاظ على السلام إلى حماس.
لكن الوضع في العراق أكثر تعقيداً بكثير. ولأنَّ الهجوم الأمريكي الضخم لن يؤدِّ فقط إلى مطالبة العراقيين بإخراج جميع القوات الأمريكية، بل قد يشمل إيران التي تقدم نفسها حتى الآن على أنها غير مسؤولة عن قرارات الميليشيات. ومساحة الإنكار هذه ملائمة أيضاً للولايات المتحدة لأنها سمحت لها حتى الآن بتقليص نطاق استجابتها دون اللجوء إلى مواجهة شاملة.
وتقول صحيفة Haaretz إن السؤال المطروح الآن، خاصة في ظل الانتقادات في الولايات المتحدة لما يبدو أنه عجز بايدن عن حماية مصالح الولايات المتحدة وقواتها، هو كيف سيكون الرد على الهجوم الأخير، وهو الأكثر شمولاً منذ فترة طويلة. إنَّ مدى احتدام الوضع على الساحتين، في اليمن والعراق، قد يجبر الإدارة الأمريكية على الإسراع في دراسة أولوياتها الإستراتيجية وإملاء جدول زمني للحرب في غزة.