وصف فيلبي للأحساء ووادي حضرموت ٢/١

١-وصف فيلبي للأحساء سنة ١٩١٧

مسعود عمشوش

مقدمة

هاري سانت جون فيلبي شخصية متعددة الأبعاد؛ فهو سياسي ورجل استخبارات بارع، ومستكشف رائد، وتاجر ماهر. وكثيرا ما يردد أن السبب المباشر لمجيئه إلى الشرق الأوسط، في عام 1914، كان تكليفه بالإسهام في تمكين حكومته البريطانية من إحكام قبضتها على أكبر قدر من تركة الدولة العثمانية في المنطقة. لكن في اعتقادنا، يكمن الهدف الأول لمجيء فيلبي إلى الشرق الأوسط وإقامته فيه في رغبته في أن يكون أعظم مستكشفي الجزيرة العربية. لهذا السبب، عندما توفي في بيروت عام 1960، ودفن في مقبرة المسلمين هناك، كتب ابنه كيم على شاهدة قبره "أعظم مستكشفي الجزيرة العربية"، وذلك عملا بوصيته. فإذا كان الرحالة والمستكشفون الغربيون قد استطاعوا، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أن يزيحوا الستار عن خبايا بلاد الشام وأرض الكنانة وشمال إفريقيا، فالجزيرة العربية بمدينتيها المقدستين وربعها الخالي ظلت أرضا محرمة. وكانت محاولات كاسترن نيبور وفون فريده وريتشارد بيرتون وتشارلز داوتي لاستكشاف جزيرة العرب غير ناجحة. فداوتي الذي رافق قافلة الحج ليصل من دمشق إلى مكة في عام 1876 أرغِم على البقاء في مدائن صالح لأنه كان مسيحيا. وعبثا تنكر ريتشارد بيرتون في زي الدراويش ليتمكن من دخول مكة والمدينة. لذلك، في مطلع القرن العشرين، حينما استطاعت الدول الغربية أن تضع يدها على تركة الدولة العثمانية في الشرق الأوسط، لجأ عدد من الغربيين إلى الانخراط في سلك العمل العسكري أو الدبلوماسي أو الاستخباراتي لدولهم، بغرض القيام برحلات استكشافية في الأراضي المحرمة؛ من بين هؤلاء: الهولندي فان در ميولن وأستاذه المستشرق سنوك هورجوني الذي لم يتردد في اعتناق الإسلام لضمان الدخول إلى المدينتين المقدستين. ولا شك في أن فيلبي، خلال دراسته في قسم الدراسات الشرقية، في كلية ترينيتي بجامعة كمبريدج، قد قرأ واستوعب تجارب هؤلاء الرحالة الذين سبقوه إلى البلاد العربية.

ولاشك في أن فيلبي قد استطاع خلال رحلاته في شبه الجزيرة العربية أن يكتسب مهارات وخبرة كبيرة في طرق رصد المعالم الجغرافية للمناطق التي يزورها. وكان بعكس مرشديه ومرافقيه الذين يفضلون في الغالب السير في المساء، يصر دائما على السفر في ضوء النهار حتى يتسنى له مشاهدة طبيعة المنطقة التي يمر بها. وحالما يصل إلى منطقة جديدة، يسارع إلى تحديد موقعها، والسمات العامة لتضاريسها، ومناخها، وعيونها وأشجارها ونباتها، وحيواناتها، وطيورها، وحشراتها. ويرسم كذلك تخطيطا لمعالمها الأرضية، ويقيس درجات الحرارة والضغط الجوي والارتفاع عن سطح البحر، مستخدما في ذلك الأجهزة التي أحضرها معه، ومهاراته الممتازة في تحديد مواقع النجوم واتجاهات البوصلة.

وسنبيِّن في هذه المقالة أن طريقة فيلبي الفريدة في تقديم الأحساء سنة ١٩١٧ ووادي حضرموت سنة ١٩٣٦ تعكس في المقام الأول سعيه لتقديم وصف شبه علمي للمناطق التي مر بها وذلك للجمعيات الجغرافية الغرببة وقرائه الغربيين. فبما أن فيلبي كان يسعى إلى اكتساب الشهرة من خلال الاستكشاف، فمن البديهي أن يحرص، في كتب سرد رحلاته إلى الجزيرة العربية، على رفد العالم بمعلومات علمية جديدة، لاسيما في مجالات الجغرافيا والعمران والتركيبات الاجتماعية والأنساب القبلية والطبيعة والحيوان. وقد أرفق فيليى بكتبه رسومات ومخططات وخرائط مهمة. وأفادت كثيرًا دقة فيلبى فى الوصف الجمعية الجغرافية الملكية في لندن، ومكنت المتخصصين فى تلك الجمعية من وضع تلك المخططات والأوصاف في خرائط دقيقة بعد ذلك، وكتب فيلبى نفسه: "تمكن خبراء الجمعية الجغرافية الملكية من الإفادة من بيانات تجوالى المفصلة فى إعداد ورسم خرائط مناسبة لذلك البلد الذى ظل حتى ذلك الحين موقعًا على الخرائط من واقع معلومات من الدرجة الثانية". 

وقد وثق سانت جون فيلبي رحلاته الاستكشافية إلى الجزيرة العربية في مئات المقالات والدراسات والمحاضرات، وأكثر من خمسة عشر كتابا ضمنها عددا كبيرا من الصور والرسومات والخرائط. وفي هذه المقالة سنقدم أولا الطريقة التي وصف بها فيلبي بعض قرى ومدن الأحساء خلال زيارته الأولى لها في نهاية سنة ١٩١٧، التي وثق تفاصيلها في كتابه (قلب الجزيرة العربية)، ثم سنتناول الطريقة التي قدم بها فيلبي المعالم العمرانية لمدن هينن وتريم وشبام في وادي حضرموت سنة ١٩٣٦، وذلك من خلال ما جاء في كتابه (بنات سبأ)، وفي الحالتين، سنركز على الأبعاد العمرانية الجغرافية في وصف مدن الأحساء ومدن وادي حضرموت. ونذكر هنا أن منظمة اليونسكو قد أدخلت مدن وادي حضرموت (شبام وتريم وسيؤن) في قائمة التراث الإنساني العالمي سنة ١٩٨٣ بسبب تميزها في طريقة البناء الطيني، وأدخلت سنة ٢٠١٥ واحة الأحساء إلى القائمة نفسها بسبب تميزها العمراني والطبيعي.  

أولا- الأبعاد الجغرافية لوصف فيلبي للأحساء سنة ١٩١٧:

في عام ١٩١٧، كان هاري سانت جون بريدجر فيلبي يعمل في البصرة مساعدا ماليا لدى بيرسي كوكس، كبير المسؤولين السياسيين البريطانيين في قوة المشاة الهندية. وفي منتصف أكتوبر، أقنع فيلبي رؤساءه بإرساله كرئيس للبعثة لاجتياز الصحراء من العقير في ساحل الخليج إلى الرياض، ليقابل فيها روبرت هاميلتون، الوكيل السياسي في الكويت، وعبد العزيز آل سعود، أمير نجد والأحساء. وخلال الرحلة وصف معظم القرى والمدن التي مر بها، وأنجز أبحاثًا رائدة في رسم الخرائط أشار فيها إلى الطوبوغرافيا بشكل مفصّل، وجمع الكثير من العيّنات لقسم التاريخ الطبيعي في المتحف البريطاني. وقام المتحف البريطاني لاحقًا بتسمية نوعٍ مجهول من الطيور آنذاك باسم (حجل فيلبي Alectoris philby) تيمنًا به. وكرس فيلبي الفصل الأول من كتابه (قلب الجزيرة العربية) لوصف رحلته من مرفأ العقير إلى وسط الأحساء؛ التى أسهب فى وصفه. وسنكتفي بتقديم الطريقة التي قدم بها فيلبي الأبعاد الجغرافية لواحة الأحساء في نهاية سنة ١٩١٧، قراها ومدنها وبساتينها وعيونها وأسواقها الشعبية.

في الطريق إلى الهفوف سرد فيلبي تقدمه بين القرى مركزا على وصف واحات النخيل والمعلومات الجغرافية لتلك القرى وسكانها وعددهم التقريبي وارتفاعها وتعرجات الطريق. ويبدأ وصف فيلبي للأحساء بتقديم معلومات ذات طبيعة جغرافية لقرية (جيشا) التي تقع شرقي مدينة الهفوف، خارج حزام النخيل. فيصف طريقة بناء بيوتها وسورها وشوارعها وسوقها وعدد سكانها، فيكتب: "قرية جيشا تعد أقصى المواقع الخارجية فى الأحساء من ناحية البحر. وهي قرية مهملة صغيرة تقع خارج حزام النخيل فى سهل الحجر الجيرى على ارتفاع ۲۷١‏ قدم فوق مستوى سطح البحر. ومن حول هذه القرية يوجد سطح السهل الذي تنتشر عليه المحاجر التى يقتطعون منها أحجار البناء. وبيوت هذه القرية كلها مبنية من قطع الحجر الجيرى المرصوص بشكل غير منتظم أو باستعمال الملاط المكون من خليط من الطين المضاف إليه الأسمئت أو الجص (الجبس).

والمنازل الأجود هي التى يليسونها بالجص أو الأسمنت الأبيض الناتج عن الحجر الجيرى، الذى يجدونه فى أماكن متفرقة حول قرية (طرف) التى تقع داخل نطاق حزام النخيل فى اتجاه الجنوب. وجيشا محاطة بسور قريب إلى حد كبير من القرية، وله أربعة أضلاع ويصل ارتفاعه فى أحد أضلاعه إلى خمس ياردات. وله بوابة فى كل ضلع من الأضلاع الأربعة. وشوارع القرية ضيقة ولكنها نظيفة وتخلو أيضًا من البنايات الفارهة. وسوق تلك القرية ينعقد يوم الاثنين. وتباع فيه المنتجات الزراعية من القرى المجاورة. وهذا هو حال جيشا بسكانها البالغ عددهم حوالى ٣٠٠٠ نسمة تعيش فى أمن ورخاء. ومما لا شك فيه أن ذلك هى حال كثير من قرى واحة الأحساء التى لم نرهاد مثل قرية عمران فى الشمال وقرية طرف فى الجنوب وبعض القرى الأخرى". ص٥٤

ثم يصف فيلبي قرية جفار قائلا: "وعلى بعد مسافة ميلين من جيشا تقع قرية جفار البيضاوية على مساحة واسعة خالية، ويحيط بها النخيل من كل الاتجاهات. وخارج أسوار تلك القرية يقع كثير من الأكشاك المصنوعة من سعف النخيل، شيدها أصحابها بطريقة الأكشاك التي يشيد بها أهل الأحساء محلاتهم يوم السوق، ومن حول تلك الأكشاك يوجد جمع من الناس المسرورين والمبتهجين، يبيعون ويشترون فى الوقت الذى يقصدهم القادمون من كل الاتجاهات من القرى المجاورة جالبين معهم بضاعتهم؛ إذ أن يوم الاثنين هو يوم انعقاد السوق في كل من جفار وجيشا٠‏ ومن لا يجد زبائن فى أحد السوقين يتجه إلى الآخر عبر مسافة بسيطة. وسواء جاءوا راجلين أو راكبين على ظهور الحمير أو الإبل، فهم يحملون بضاعتهم على رءوسهم أو على دوابهم. کل شیء هنا قابل للتسويق: الأنواع الجيدة من التمر، وتباع الأصناف الرديئة علفا للماشية، والبرتقال والليمون، والقرع العسلى، والباذنجان والباميا والبرسيم الحجازى والحصر المصنوعة من سعف وليف النخيل، أو إن شئت فقل كل شىء، أى شيء تنتجه بساتينهم اليانعة. والمشترون معظمهم من أولئك التجار الذين يجمعون المواد التموينية ليبيعوها في المراكز الكبيرة، ‏ والسبب فى ذلك أننا لا نتصور أن تجد المنتجات البستانية زبائن لها وسط تلك القرى التى يقوم كل واحد فيها بزراعة بيارته أو حقله أو بيارات أو حقول الآخرين. وسكان جفار يقدرون بحوالي ١٥٠٠‏ نفس". ص ٥٥ "وخلف قرية جفار -يقول فيلبي- تقع أعظم بساتين الأحساء كلها، وهى عبارة عن بيارات (بساتين) رائعة ومنظمة عامرة بأشجار البرتقال والليمون، شديدة الخضرة وعلى شكل صفوف منتظمة وسط أبهاء جذوع النخيل العظيمة". 

وبعد جفار يصف فيلبي قرية المركز التي يطلق عليها اسم (مركاز القارة)، بحكم موقعها القريب أسفل تل القارة. ويصل عدد سكانها إلى حوالى ألف نسمة". ثم يصف قرية فضول الدائرية المسورة. ص56 ومنها يدخل "إلى مدينة الهفوف نفسها، عاصمة الأحساء التي تقع على ارتفاع ٤٧٥ قدمًا فوق مستوى سطح البحر فى الطرف الجنوبى من الواحة الغربية… وبعد أن عبرنا مرتفع ترابي وصلنا إلى حافة الواحة الغربية عند برج حراسة عويمل، بعد مسير دام أريعة أميال، و زدنا عليها ميلا آخر سرناه وسط بساتين (حيوط، بيارات) النخيل المسورة، ووصلنا بعد ذلك إلى الفضاء الواسع على الجانب الآخر، الذي تنتصب فيه قبة مسجد إبراهيم باشا البيضاء، مرتفعة فوق أسطح منازل الهفوف المستوية، ولا تبعد كثيرًا عن البوابة التى دخلنا منها خلال لحظات قليلة إلى حي الرفاع،‏ أو إن شئت فقل الحي الشمالى الشرقي من المدينة، لنعبره هو ومنطقة سوق الخميس و(القيصرية) الواسعة، التي تفصل الرفاع عن الكوت، أو إن شئت فقل القلعة، وهي وجهتنا ومقر مركز الحكومة المحلية للأحساء. 

ويقدم فيلبي تفسيرا خاصا لاسم الأحساء (أو الحساء كما ينطقه السكان)، ويكتب: "ومصطلح الحساء Al Hasa معناه الحجر الجيرى، وهو لا ينطبق إلا على سهل الحجر الجيرى الواقع بين منحدر الصمان Summan الصحراوى وحزام الرمل الشرقي، وينطبق بصورة أكثر تحديداً على المنطقة المجاورة بالفعل للواحتين التوأم: والمصطلح من الناحية الإدارية يستعمل استعمالاً واسعاً ليشمل كل المنطقة الخاضعة لسلطة الأمير. والواحة الغربية وحدها هي التي تحمل اسم الأحساء Al Ahsa، المختلف عن الاسم في الفصحى الذي يدل على الهمس أو الهمهمة الصادرة عن المجارى المائية التي وفرتها الطبيعة لرى الأراضي الخصبة في الواحة. وكلمة "حسا" [حصا!] في نجد هو مصطلح لكل الصخور أو الأحجار، أما الكلمة حجر فهي نادرة الاستعمال أو قد لا تستعمل مطلقا، ويجرى تمييز أنواع الصخور من ألوانها وليس بمكوناتها المادية؛ ومن هنا فهم يقولون للجرانيت الأحمر حسا أحمر، أما البازلت، والجرانيت الرمادي ، وكذلك الصخور البركانية فيقولون لها حسا أسود، والحجر الأخضر يقولون له حسا أخضر ، إلخ".ص٦١-٦٢

والهفوف التي تضم ٦٠٠٠‏ منزلا شهيرا، ولا يقل عدد سكانها كثيراً عن ٣٠٠٠٠‏ نسمة، وهى‏ إلى حد بعيد ‏ أكبر المدن من بين ممتلكات ابن سعود. وهي مدينة بيضاوية الشكل تقريبا،‏ ويحيط بها سور لا مثيل له فى ارتفاعه، مبنى من كتل الحجر الجيرى [الحصا] الذى جرى جلبه من المحاجر المحلية. والبيوت مليّسة بالطين فى بعض أجزائها. والمدينة تقع بين الشمال الغربي والجنوب الشرقي، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: هى حي الكوت وحى الرفاع‏، ثم حي النیاثل، التى يمكن أن نضيف إليها ضاحية الصالحية ذات الجدران والحائط الغربى الذى يلتصق ببيارات (بساتين أو آبار) النخيل، ولا توجد به بوابة ومهدم فى بعض أجزائه ومخرم بطريقة غير رسمية في بعض البساتين. والحائط الجنوبي توجد به بوابة واحدة يطلق عليها اسم باب نجد، وهو منفذ المرور الوحيد للداخل والخارج. والحائط الشرقى له بوابتان: باب الصالحية على الطريق القادم من أطراف الواحة الشرقية، ويخترق الضاحية التي يحمل اسمها، وباب جيشا الذي دخلنا منهد شأننا فى ذلك شأن كل القادمين من مرافي الأحساء في الشرق. وأخيرا الحائط الشمالى وبه أيضا بوابتان: إحداهما تسمى باب إبراهيم باشا، الذى يؤدى مباشرة إلى الكوت فى المنطقة المجاورة للجامع الكبير والقلعة التي تحمل اسم الحاكم السابق، في حين يؤدى باب الخميس كما يوحي اسمه إلى الساحة الواسعة التي ينعقد فيها سوق الخميس الذى يشق المدينة طوليا إلى أن يصل إلى منتصفها. والذى يطلق عليه اسم الحميدية التى هى بمثابة قاعة للمدينة منذ أيام العثمانيين، ولكنها تحولت اليوم إلى مستودع لتخزين ممتلكات بيت المال٠‏ ويوم أن زرناها كانت عبارة عن مستودع كبير لتخزين التمور،‏ يسمع من حوله أزيز الدبابير التى كانت تدخل إليه من خلال الفجوات الموجودة فى النوافذ. 

وسوق الخميس عبارة عن شارع مترب واسع يصل عرضه إلى حوالي ٥٠‏ ياردة. أما طوله فيقدر بحوالي مائة ياردة. والسوق من الناحية الغربية يحف به من أوله إلى آخره الخندق وسور الكوت الذى يمكن الدخول إليه من هذا الجانب عن طريق بوابة محصنة بحواجز حديدية مربعة الشكل… وسوق الخميس يظل مهجورًا طوال أيام الأسبوع باستثناء أيام الخميس التى تنصب فيها الأكشاك الصغيرة المصنوعة من حصير اليوص على شكل صفوف ويفد إليها البائعون والمشترون بالآلاف لحضور السوق الأسبوعية. وفي ذلك السوق تجرى تجارة رائجة فى التمور، والحاصلات البستانية بكل أنواعها، ‏ واللحم ويخاصة أفخاد الجمال الحمراءد وقطعان الماعز والأغنام؛ ولأن الأسر كلها هنا تأكل اللحم طوال أيام الأسبوع. والفقراء لا يأكلونه إلا يوم الجمعة، الذى تقام فيه صلاة الجمعة، وهو اليوم أيضًا الذى يتسوق رب الأسرة فيه مقتضى بيته؛ فالأسعار هنا ليست ثابتة، وكل شىء يباع ويشترى بطريقة المساومة المكاسرة؛ ولا تباع عنزة أو خروف إلا بعد أن تجسها وتفحصها أيادي الخبراء.

ويقع سوق القيصرية ناحية الجانب الشرقي من السوق. والقيصرية متاهة كبيرة من البواكى المسقوفة أو المكشوفة التى توجد فيها الدكاكين الرئيسية: البقالون وباعة القبعات ولوازمها وباعة لوازم الخياطة، وتجار الأقمشة وباعة السجاد وصناع المعادن وصناع أطقم الخيل ولجمها، وتجار العملة وما إلى ذلك. والحضر والبدو يتجولون طوال اليوم فيما عدا أوقات الصلاة بين تلك الدكاكين بحثا عن الصفقات شوقًا إلى الشراء ‏ ولا يهدأون طالما كانت لديهم النقود التى ينفقونها. والجزء الأكبر من البضائع التى فى تلك الدكاكين يأتي من الهند. ويدعمها التجار بالأشغال المعدنية المحلية. وكذلك المشغولات الخشبية والمشغولات الجلدية؛ ودلال القهوة والأخراج وسروج الخيل ‏ والمباخر والنعال، وأخيرًا وليس آخرا البشوت السوداء المزينة بياقات من خيوط الفضة أو المزركشة بخيوط الذهب والتى تشتهر بها الأحساء وحدها. 

وحى الرفاع يشتمل على القيصرية ويشغل الجانب الشرقى كله فى المدينة وتوجد فى ذلك الحى منازل التجار ومنازل الأثرياء. وشكل المبانى فى هذا الحى يوحى بالتواضع الكامل من الخارج؛ فهى مبنية من الحجر الجيرى الشائع فى هذه المنطقة، والمليس بالجبس أو بالطين. ولكن هذه المنازل فارهة من الداخل اعتمادًا على قدرات أصحابها. ومن سوء الطالع أننى لم أستطع بسبب ضيق الوقت رؤية أي منزل من تلك المنازل من الداخل وذلك باستثناء السراى. 

وحى الكوت هو والرفاع ربما يشغلان ثلاثة أخماس المدينة كلها. أما الجزء المتبقي أى إن شئت فقل القسم الجنوبي الغربي من المدينة فهو بشكل ما يطلق عليه اسم النياثل أو إن شئت فقل الحى الفقير المكتظ بالسكان. والشوارع ضيقة فى هذا الحي وليست مطروقة مثل سائر الشوارع الأخرى، ‏ والمنازل أقل رونقًا 

لافتقارها إلى الطلاء بالجبس، وتبدو خرية. ويفصل حي النياثل عن حي الرفاع شارع ضيق يمتد من الحميدية إلى منطقة واسعة يطلقون عليها اسم القرن وتقع أمام بوابة نجد. 

وضاحية الصالحية التي تقع خارج سور القسم الجنوبى الشرقى من المدينة حديثة العهد، ويشتق اسمها من اسم القلعة التى بناها الأتراك لحماية المدينة من ذلك الجانب . 

وعلى بعد مسافة ثلاثة أو أربعة أميال إلى الشمال الغربي من الهفوف تقع مدينة المبرز الشقيقة [اليوم اصبحت المدينتان متداخلتين]، التى يصل تعداد سكانها إلى ما يقرب من ٢٠٠٠٠‏ نسمة؛ وهذه المدينة ليس لها رونق العاصمة؛ فشوارعها ضيقة ومتعرجة، ومنازلها مبنية من الحجر الجيرى الذى لا مفر منه، ومنخفضة وغير مطلية بالجبس. والسور الذي يحيط بالمدينة بدون أبراج، وبوابات ذلك السور عبارة عن فجوات عديمة الشكل؛ وتوجد بوابة فى كل ركن من أركان السور الأربعة. وبعد البوابة الشرقية من الداخل يوجد فضاء ضئيل يمتد بطول أحد الجوانب، وهو الذى يقع عنده بيت الأمير محمد بن ثنيان الذى زرته فى إحدى المرات التى خرجت فيها من مدينة الهفوف طلبا للتنزه". 

وقبل أن يختتم تقديمه لواحة الأحساء يتحدث فيلبي عن الآبار الملحقة بالبيوت، مثلما كانت عليه الحال في مدن سيؤن وتريم وشبام في وادي حضرموت. ويصف كذلك عددا من عيون المياه الكثيرة المشهورة فيها. ويكتب: "وتتمثل ثروة الأحساء فى عيونها المعدنية ومجاريها المائية ووفرة المياه بها، وقلة قليلة من منازل الهفوف هي التى لا تحتوي على بئر خاصة للماء، الذي يمكن الحصول عليه من أعماق تتراوح بين اثني عشر قدما وعشرين قدمًا،‏ ولكن نوعية الماء تتباين من بئر لأخرى، ومن عمق إلى عمق، ومياه آبار حى الكوت وحى النياثل عذبة فى حين إن مياه الجزء الأكبر من حي الرفاع وحي الصالحية بكامله لها مذاق مالح؛ والمجارى المائية التى تعتمد عليها بساتين الواحتين ترفع من عدد من الآبار والعيون التى تنتشر فى كل أنحاء الواحة الغربية، ثم تتحول بعد ذلك إلى قنوات مكشوفة تتبع الانحدار الطبيعي للأرض من الغرب إلى الشرق. وانسياب هذه المياه دائم وكاف. وأعظم تلك العيون هى: ‏ العين الحارة التي تندفع المياه منها ساخنة في اتجاهات مختلفة نحو بيارات النخيل التي حول مدينة المبرز. وهذه البحيرة تقع على بعد مسافة ميل واحد من المدينة، وتمتد إلى مسافة أربعمائة ياردة من حيث الطول، أما عرضها فيقدر بحوالي مائة ياردة. وعلى حواف تلك البحيرة توجد بيارات النخيل، وأطلال بعض المساكن. وتشكل هذه البحيرة جانبا من جوانب الجمال فى تلك المنطقة، ويقصدها الجنسان للاستحمام فى مائها. والجنس اللطيف يقصد بحكم العرف والتقاليد الطرف البعيد من البحيرة حيث يوجد الخوص المرتفع، و يوفر ظلال بيارة (بستان) النخيل نوعًا من الخصوصية، والماء على الرغم من سخونته بالقرب من العين نفسها، ودفئه فى بقية البحيرة فإنه عديم الطعم. وهناك عين الخدود وعين حقل التى تبعد الواحدة منهما عن الأخرى حوالي ريع ميل تقريبًا ضمن حزام النخيل الذي يمتد حوالى ميل ونصف الميل إلى الشرق من الهفوف، والعينان تنبعان من القيعان الرملية صغيرة الحجم التى تخرج من كل واحدة منها قناة تتجه نحو الجنوب لتصل إلى نقطة تتحد عندها لتكون مجرى السليسيل الذي ذكرنا… وفي مكان بالقرب من مدينة المبرز تقع عين أم الخریسان التى تسير بحذاء الطريق المؤدي إلى الهفوف ‏ ويعتقد الناس أن مياه هذه العين لها خواص كيماوية عجيبة لا تأثير لها على الأصباغ الطبيعية ولكنها تؤثر تمامًا على الأصباغ الصناعية وتتلفها ويجرى اختبار بشوت الأحساء المصنوعة محليًا بغمرها فى مياه تلك العين ثم الحكم عليها من مياهها السوداء اللون. ولابد أن مياه تلك العين قد أنقذت كثيرًا من المشترين من الغش". ص ٧٠

 يتبع ٢/٢ وصف فيلبي لمدن وادي حضرموت سنة ١٩٣٦