من المشيخات والسلطنات إلى الجمهورية.. التاريخ لا يُمحى لكنه لا يُستعاد!
نشرتُ في وقت سابق مقالًا تناولتُ فيه بعض الدعوات التي تنادي بإعادة إحياء المشيخات والسلطنات وها أنا أعود لأؤكد لأصحاب الدعوات باستعادة المشيخات والسلطنات ورد الاعتبار لهم، انني لست من أعداء تلك المراحل التاريخية ولا من خصوم رموزها، ممثلين بالأبناء او الأحفاد لكني انظر الى هذا الملف من زاوية اشمل تنطلق من ايمان عميق بأن مصالحة الذاكرة الوطنية مع تاريخها بكل مراحله هي مدخل اساسي لصياغة مستقبل متوازن لا يقوم على الحنين الى الماضي ولا على تفكيك الوطن.
لقد انتهى نظام المشيخات والسلطنات في الجنوب، رغم محاولات احيائه بعد عام 1990 لأهداف سياسية بحتة. وهو اليوم لم يعد قائمًا كمنظومة، ولن يعود، ولا احد يطالب بذلك، بل اصبح جزءًا من التاريخ. ومع ان جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية التي تأسست بعد الاستقلال قد وحدت المشيخات والسلطنات في اطار دولة موحدة قوية لكنه اتسم بقطيعة راديكالية معهم، إلا ان الزمن اثبت أن محو التاريخ لا يبني هوية وطنية، فالنظام الجمهوري لم ينشأ من فراغ بل خرج من رحم واقع اجتماعي وثقافي طويل كانت المشيخات والسلطنات احدى تجلياته.
الاعتراف الرمزي بالماضي لا يعني تمجيده او السعي إلى اعادة انتاجه، فليس من المنطقي ولا المقبول اليوم المطالبة بتمكين احفاد السلاطين والمشايخ، او منحهم امتيازات خاصة او تعويضات مادية. فهؤلاء، كمواطنين، تُنظم علاقتهم بالدولة وفقًا للدستور ومبادئ المواطنة المتساوية، لا على اساس امتيازات تاريخية. وفي بلد مثقل بالديون والأزمات فإن ما يمكن ويجب فعله هو انصاف رمزي يتمثل في توثيق تلك الحقبة بعدل ودمجها في سردية الوطن الجامعة عبر المناهج التعليمية والبحث الأكاديمي وربما بتحويل بعض مواقعها إلى معالم تراثية.
لدينا في العالم العربي نماذج واضحة لمصالحة متوازنة يمكن الاستفادة منها. فمصر احتفظت بآثار ملوكها ودمجت تاريخهم في الذاكرة الوطنية. والعراق وتونس فعلا الشيء نفسه بدرجات متفاوتة. اما في اوروبا، فالصورة اكثر وضوحًا؛ فرنسا الجمهورية كرّمت إرث ملوكها، وروسيا اعادت دفن القياصرة بعد عقود من الإنكار، وألمانيا وإيطاليا حولتا القصور الملكية إلى متاحف وطنية. وهناك أمثلة كثيرة أخرى.
اذا كنا نبحث عن هوية وطنية شاملة، فإن البداية تكون من مصالحة الذاكرة مع تاريخها لا عبر استعادة الأنظمة القديمة، بل من خلال الاعتراف الرمزي بأن تلك المراحل بما لها وما عليها كانت جزءًا من الطريق نحو الدولة الحديثة. فالإنصاف لا يعني العودة إلى الوراء بل أن نروي القصة كاملة؛ دون حذف او شيطنة، ودون تمجيد او ابتزاز عاطفي او سياسي.