من أخطاء الفترة 1967-1990 في الجنوب: ظاهرة الاعتماد على العناصر الحزبية غير الكفؤة واستبعاد الكوادر الكفؤة غير الحزبية

مسعود عمشوش

تـُعد العلاقة بين الجامعة والتنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية، ثم الحزب الاشتراكي اليمني، من أصعب القضايا التي ينبغي علينا تناولها عند كتابة تاريخ جامعة عدن في الفترة 1967-1990. فطوال عقد السبعينيات كان المناخ العام في عدد من الأقطار العربية لا يزال مصبوغا بشعارات يسارية تُردَّد بين صفوف المثقفين العرب بشكل عام. وفي الجنوب كانت آلية الحكم تفرض على جميع المؤسسات الحكومية المرور بالهيكل التنظيمي أو الحزبي الحاكم، الذي يقوم بدور المراقب والموجه والآمر-الناهي. 

وقد تمّ ترسيخ سلطة التنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية في الجامعة من خلال مواد قانون تأسيسها ولوائحها التنظيمية التي تلزم هيئاتها بضم ممثل للتنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية (وبعد سبتمبر 1978 الحزب الاشتراكي اليمني) في قوامها وتنفيذ سياسته وتوجيهاته في مختلف الأمور. وإذا كان القرار رقم 22 لعام 1975 الخاص بإنشاء الجامعة قد اكتفي بوضع ممثل عن المنظمة القاعدية للتنظيم السياسي الجبهة القومية بالجامعة في عضوية مجلس الجامعة، فالمادة الخامسة من القانون رقم 23 لعام 1975 الخاص بتشكيل المجلس الأعلى للجامعة، الذي يضم ممثلا عن اللجنة المركزية للتنظيم السياسي الجبهة القومية، تحدد المهمة الأولى من مهام المجلس على النحو الآتي: "اقتراح السياسة العامة لتخطيط وتطوير التعليم العالي مراعيا في ذلك برنامج التنظيم السياسي الجبهة القومية وقرارات وتوصيات المكتب السياسي واللجنة المركزية للتنظيم السياسي الجبهة القومية، والدستور وقوانين وقرارات مجلس الشعب الأعلى، ومجلس الوزراء ومجلس الرئاسة، وقرارات مجلس الوزراء، وكذا خطط الدولة للتنمية الاقتصادية".

ويمكن أن نذكـّر هنا أن أول لائحة تنظيمية للجامعة قد أغفلت تعيين نائب لرئيس الجامعة لشئون الطلاب أو لشئون البحث العلمي، لكنها نصت على تعيين نائب لرئيس الجامعة للشئون السياسية، وأخضعت لإشرافه دائرة التوجيه ودائرة شئون الطلاب ودائرة النشاطات. أما على مستوى الكليات، فقد تم تضمين هياكلها الإدارية نائبا سياسيا يتولى التنسيق بين عدد من المكونات أطلق عليها: (الأشكال النضالية)، وتشمل المنظمة القاعدية للتنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية (وبعد سبتمبر 1978 الحزب الاشتراكي اليمني)، وفرع اتحاد الشباب الديمقراطي اليمني، وفرع الاتحاد العام للطلبة اليمنيين، وفرع نقابة أعضاء هيئة التدريس.

ولم يكتف التنظيم أو الحزب بما جاء في القانون واللوائح، وبوجود تلك المكونات النضالية لضمان تنفيذ سياسته وتوجيهاته داخل أعلى صرح تعليمي في البلاد، بل حرص على تعيين عناصر حزبية في المناصب القيادية داخل الجامعة والكليات. 

ومع ذلك ينبغي التأكيد على أن التنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية، قبل اندماجه في الحزب الاشتراكي اليمني، قد مكـّن عددا من الكوادر (التكنوقراطية المتخصصة) غير الحزبية من تبوء مناصب قيادية رفيعة. ومن أبرز تلك الكوادر الأستاذ سعيد الخير النوبان الذي شغل منصب نائب وزير التربية والتعليم ثم وزير التربية وكذلك رئيس جامعة عدن. ولا شك كذلك في أن تلك الكوادر كانت تتحلى بكثير من الحنكة والمرونة، واستطاعت أن توفق بين المتطلبات الفنية والعلمية لمراكزها وبين الخطاب السياسي والتنظيمي السائد آنذاك.

ومن المعلوم أن النوبان، بوصفه وزيرا للتربية والتعليم ثم رئيسا لجامعة، قد التزم بتنفيذ الاتجاهات العامة للنظام السياسي. ومثال على ذلك ما جاء في رسالة وجهها إلى رئيس الجامعة في عام 1976 يدعوه فيها إلى تحقيق أهداف جامعة عدن، والحرص على تطبيق سياسة التنظيم السياسي الجبهة القومية في مختلف أنشطة الجامعة.

ومن الواضح أن مضي رئيس الجامعة سعيد عبد الخير النوبان في تنظيم المؤتمر الأول للتعليم العالي في 26-28 إبريل 1981، دون موافقة وزير التربية والتعليم، عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، الذي كان وفق القانون رقم 22 لعام 1976 الرئيس الأعلى للجامعة، قد أدى إلى ردود فعل متعددة الأشكال من قبل الوزير والأطراف المناصرة له في اللجنة المركزية للحزب. ومن المعلوم أن وزير التربية، حينما لم يستطع منع أو تأجيل انعقاد المؤتمر، لجأ إلى المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الاشتراكي، واستصدر منها جملة من القرارات تهدف أساسا إلى إزاحة النوبان -الذي لم يكن حزبيا- من رئاسة الجامعة، والتأكيد على تبعية الجامعة لوزارة التربية والتعليم، أي عكس ما تنص عليه معظم الوثائق الصادرة عن المؤتمر الأول للتعليم العالي. فقد جاء فيها:

"وقفت اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني في دورتها الاعتيادية المنعقدة في 19 إبريل من عام 1981 أمام التقرير المقدم حول الأوضاع في الجامعة وكلياتها ومستوى تنفيذ قرارات اللجنة المركزية في دورتها التاسعة، وبعد مناقشات مستفيضة أقرت التقرير واتخذت القرارات الآتية:

أولا: حول الأوضاع القيادية في الجامعة وكلياتها:

بالنظر إلى أهمية الدور الذي تلعبه القيادة في قدرة أي مؤسسة على تحقيق الأهداف المناطة بها، وبالنظر إلى أهمية تعزيز الدور القيادي للحزب في المرافق والمؤسسات، وحتى تتمكن الجامعة من تحقيق أهدافها المنشودة، فأن اللجنة المركزية تقر ما يأتي:

- العمل على تطوير الوضع الإداري في الإدارات المركزية والكليات التابعة لها وتعزيز الدور القيادي للحزب وبما يؤدي إلى تحقيق الأهداف المناطة بها،

- استكمال تعيين نواب للشئون التربوية والثقافية بالجامعة والكليات....".

وقد نجح المكتب السياسي للحزب، منذ ذلك الحين، في إحكام قبضته على الجامعة، وبرزت النية واضحة في إزالة النوبان. ويبدو أن قرار استبعاد النوبان قد تم تأجيله إلى مطلع عام 1982. وكان هناك اسمان مرشحان لشغل منصب رئيس الجامعة: د.سالم بكير ود.عمر علي. وبعد شد وجذب داخل اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب، تمّ في شهر يونيو من عام1981 تعيين د. سالم عمر بكير نائبا ثالثا لرئيس الجامعة. وفي 1 يناير 1982 صدر قرار تعيين سالم بكير، الذي كان يعمل في دائرة الشؤون الأيديولوجية في الحزب، رئيسا للجامعة. 

وفي الفترة من 25 مايو إلى 26 مايو 1982 نظمت اللجنة المركزية للحزب ندوة خاصة بجامعة عدن كانت قرارتها وتوصياتها تهدف إلى ترسيخ قبضة الحزب على الجامعة. وفي مطلع شهر أغسطس اتخذ المكتب السياسي للحزب قرارا بتعيين د. عمر علي نائبا سياسيا لرئيس الجامعة. واتخذ المكتب السياسي قرارات أخرى بعثها نائب سكرتير اللجنة المركزية للشؤون الأيديولوجية إلى رئيس الجامعة وقد جاء فيها: 

الرفيق رئيس جامعة عدن المحترم

الموضوع: قرارات المكتب السياسي في اجتماعه المنعقد بتاريخ 1 أغسطس ۱۹۸۲

وقف المكتب السياسي في اجتماعه المنعقد بتاريخ ۸۲/۸/۱م أمام الوضع الإداري في جامعة عدن وكلياتها وبهذا الصدد اتخذ عددا من القرارات تدخل ضمن نشاطكم وهي:

- يكلف المكتب السياسي رئيس جامعة عدن العمل على تحسين الموقف من العمل وذلك من خلال تعزيز الرقابة على تنفيذ قرارات هيئات الجامعة وأدارتها المركزية وتأمين قدر عال من الإشراف والمحاسبة لعمل الكادر القيادي في أجهزتها المركزية وكلياتها المختلفة. وفي هذا الاتجاه يكتسب العمل على تنشيط اللجان الدائمة والدوائر المركزية أهمية بالغة في تأمين التحسين المستمر للأوضاع الإدارية والأكاديمية للجامعة...

-يكلف المكتب السياسي رئيس جامعة عدن بالتنسيق مع لجنة الكادر بسكرتارية اللجنة المركزية والدائرة الأيديولوجية بالعمل على تعيين كوادر حزبيه فـي الشواغر القيادية في الجامعة وفي نفس الوقت العناية بالكادر غير الحزبي المؤهل علميا وسياسيا والاستفادة منه في هذا المجال. وبهذا الصدد يقـر المكتب السياسي التعيينات المقترحة من قبل رئيس الجامعة في الشواغر القيادية في الجامعة وكلياتها ويؤكد في نفس الوقت على أن تبذل الجهود من أجـل العناية بالكادر المؤهل علميا وسياسيا".

ويبدو أن بعض عناصر المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني قد لمست شيئا من المغالاة في استهداف النوبان والسعي الى إزاحته من رئاسة الجامعة من خلال تطبيق قرارات اللجنة المركزية، وقامت بتقديم تقرير للجنة المركزية للمكتب السياسي حول الأوضاع في جامعة عدن يتناول المناصب القيادية في الجامعة وكلياتها، وتحديد مؤهلات كل منها. وبيّن التقرير أن عميد كلية التكنولوجيا لم يكمل الدراسة الجامعية في الهندسة، ومسجل عام الجامعة لم يتجاوز المرحلة الثانوية، وأحد نواب رئيس الجامعة يحمل شهادة البكالوريوس. وتطرق التقرير كذلك لإشكالية التوفيق بين (توافر الكفاءة العلمية والخبرة والنظرة الثاقبة والرؤية البعيدة) وبين توافر الالتزام الحزبي. وانتقد بشدة التغيير المستمر في قيادات الجامعة مثلما حدث في كلية التربية العليا-عدن التي تعاقب فيها خمسة عمداء في أقل من عشر سنوات. ويربط التقرير هذه الظاهرة بقضية أخرى هي "من هو الأفضل للقيادة: الملتزم الكفؤ، أو غير الملتزم الكفؤ؟ لقد تعددت الردود واختلفت الاتجاهات حسب ظروف كل مجتمع ويعتمد القرار في أحوال كثيرة على درجة عدم الكفاءة للملتزم من جهة، وعلى درجة الاختلاف بين الكفؤ غير الملتزم والنظام السياسي من جهة أخرى".

وحذر التقرير من سرعة تغيير القيادات الجامعية، معللا ذلك أنه "ليس من السهل الوصول إلى القيادة المتميزة نوعيا بكفاءة عالية، إذ أن هذا يأتي من خلال تراكم الخبرة لدى المرشحين الذين يتمتعون بخصائص وميزات قيادية، ولكن من السذاجة بل ومن السطحية الخطيرة التفكير العفوي في استبدال فلان بعلان صاحب الخبرة والكفاءة والخبرة المتراكمة والقدرة على التطور السريع لنفسه وتطوير المرفق الذي يقوده. ولو أخذنا كلية التربية كمثال على التغيير المستمر ومدى تأثيره على المؤسسة التعليمية نجد انه خلال عقد واحد من الزمن (بين عام 1970 و1980) تعاقب هذه الكلية خمسة عمداء وعدد من النواب. ما هي نتيجة هذه التغييرات على الكلية؟ إن هذه الكلية هي الكلية أقل الكليات استقرارا في مناهجها وهيئة تدريسها ومختبراتها ... الخ. لا شك أنه لم تعط الفرصة الكافية لعميد من هؤلاء العمداء الخمسة لينظمها ويرسخ تقاليد جامعية سليمة فيها". 

وفي الحقيقة ظلت ظاهرة استبعاد الكوادر القيادية غير المنتمية للحزب الحاكم مستمرة في جامعة عدن بعد عام 1990. وتجدر الإشارة أنه في تلك الفترة تمّ توجيه نقد شديد لرئيس الجامعة د. صالح علي باصرة بسبب اعتماده على عناصر قيادية من خارج المؤتمر الشعبي العام، الذي طالبه بالتخلص منها. 

(انظر كتاب صفحات من تاريخ جامعة عدن)