أغاني السناوة في وادي حضرموت
مسعود عمشوش
من أبرز مكونات التراث اللامادي في وادي حضرموت أغاني السناوة أو المقود. والسناوة هي عملية رفع الماء من البئر في وادي حضرموت وظفار قبل أن يتم تعميم استخدام المكائن لرفع المياه الجوفية للشرب وريّ المزروعات. والسناوة يقوم بها الإنسان بمفرده أو بمساعدة بقرة أو ثور أو حمار أو جمل. ولتسهيل الرفع يتم حفر منحدر بجانب البئر يسمى المقود. ولكي يتجنب السناة ملل تكرار عملية النزول والصعود في المقود يقومون بترديد بعض الأبيات الشعرية أو الأغاني القصيرة، وذلك بشكل تناوبي أو جماعي.
وإذا كانت السناوة نفسها قد اختفت في حضرموت في مطلع ستينيات القرن الماضي بعد أن تمّ تعميم استخدام المكائن (وفي الغالب اللاستر) لرفع المياه الجوفية، فأغاني السناوة ظلت تردّد من قبل المزارعين أثناء عمليات الحراثة وعند حصاد القمح والذرة حصاد.
ومن المؤكد أن عذوبة أغاني "السناوة" أو المقود الجماعية قد جذبت كثيرا انتباه زوار حضرموت، لاسيما المستعربين، الذين قاموا بتوثيقها نصيا وصوتيا وبصريا. ومن المؤكد أيضاً أن ما كتبه لاندبرج وسرجانت عن السناوة وأغانيها كان حافزا مهما لعدد من الحضارم الذين كتبوا بعد ذلك عن السناوة وأغانيها.
في سنة 1900 كرّس الكونت كارلو دي لاندبرج فصلا من كتابه (لهجة حضرموت) للحديث عن حرفة المزارع أو الحراث باللهجة الحضرمية، وضمنه معلومات مهمة عن جميع مكوناته السناوة، البير والتشروعة والغرب والثارة والسناة وأغانيهم، فقد كتب:
"كما إنتِ ذلحين عندك أرض وجبت واحد يحرث الأرض ويكون كل شيء عليه: البقر والحمير والجمال والحديد، ولِّي تطلِّعه من الثمر له ناصفته من بُدّ [باستثناء]النخل وله في النخلة خيل، ومولى المال يسلّم العشور من نصيفه للدولة...
وشغل الحرّاث حفر البير كما [أيضا]. يبحثون من حيث با يلقون البير. ولوّل يحفرون حفرة مستديرة لمّا قد غزرها قامتين. بعد يخلف مطاف من تحت قياس ذراع في العرض، ويبحثون لتحت حتى تتميم البير، ويبنون الضّفرة فوق المطاف لحد فضْوة البير، ويدورونها بالدور لمّا الركبة، ويقيمون الراحة [الثارة] ويعلّونها علبير بذراعين، ويبحثون المقود ينكسونه من قدا البير والهافي من الجانب الثاني، إلَا نزل الثور في هابطي المقود معاد يبان من غرْزه [عمقه]. وبعد يبنون العتم بحجارة ونورة لما قريب الزراعة. عقب ذا يركّزون التشاريع ويربطون روسهم من طالع ويركبون العجلة والسِّرِة [الحبل المصنوع من ليف النخل] فوقها والغرب معصوب في السِّرِة ويربط السِّرة بالقَتَب حق الثور، ولمّا يطلع الثور لراس المقود ينزل الغرب في عين البيرن والسّاني يقبض في السرة ويجر ويربّخ حتى يمتلي الغرب، وقد دار الثور لنفسه ويسوقه الساني إلى هابط، ولاكذ الغرب على تَوْ الثارة يجره بالملقف والثور يقترب ويفش الغرب في الثارة ويخرج من الفتحة الماء ثاجي إلى العتم ويتفرق في الحِجْل [القطعة الزراعية في الحقل]، وكلما سقى مكان ختم العتم حقّه وردّ الماء في الجنب الثاني.
ومع السناوة لي يسني يغنّي ويتلاكع عالطبين حقّه [مالك الأرض]، يقول هكذا يوم [عندما] يملي الغرب ويجون أوادم يسمعون المَغْنَى:
مَرَة ْ طبيني جاتنا مغيرة
عطيتها طَوفين في المطيرة
لِن قد كفاش وألّا ارجعي هجيرة
يا لمال يا لمالي
مرة طبيني جات عندنا اليوم
ضلّ المقلف والضبي على السوم
يا لمال يا لمالي
قلت اقربي قالت تقرّب انته
وُش عرّفك بالحب لا رحمته
يا لمال يا لمالي
الحب لا له مطحنه ولا ناب
لا له مطاحن كان عض لـ....
ولُه مشافر كأنهن سُفَر باب
يا لمال يا لمالي
الحب لَحْمَرْ خير لي من القوت
وخير من صحفة قضوض مفتوت
يا لمال يا لمالي".
(انظر كتابنا: لهجة حضرموت في كتابات كارلو دي لاندبرج وفان دن بيرخ)
وكما نلاحظ، من بين أغاني السناة المشهورة، ركز الكونت السويدي كارلو دي لاندبرج، كعادته، على الأغاني الجريئة. ومع ذلك فقد أهمل توثيق بعض أبيات السناوة الأكثر شهرة، ومنها هذا البيت (يا بعير يا مشرشر على الناقة ** ريت لي في حبيبي تعلاّقة)، والتي كنت قد شاركت بنفسي في ترديدها خلال مشاركتي في حصاد القمح في سيئون في ستينيات القرن الماضي، أو أثناء قطف العنب مع زميلي عبد الله قنزل وعمر الحدري في ضواحي بوردو أثناء قطف العنب في بوردو في سبعينيات القرن الماضي. (انظر كتابي: أيامي في بوردو سيئون وبوردو ج1)
وفي سنة 1952، نشر الضابط المستعرب الإنجليزي روبرت سرجانت، الذي زار حضرموت أول مرة بين عامي 1947 و1948، كتابه (نثر وشعر من حضرموت)، وضمنه ضمنه وصفا موجزا للسناوة وبعض أغاني السناوة التي سمعها من المزارعين أنفسهم، وكتب:
"لا يمكن أن ينسى أي زائر يزور تلك المنطقة ذلك الأنين الموسيقي الذي يسمعه طوال النهار ماعدا وقت الظهيرة في اشتداد الحر، وكذلك خلال ليالي شهر رمضان، ويعمل الجميع رجالا ونساءً، وحتى الأطفال في عملية السناوة أي في نزح الماء من الآبار بمساعدة الحيوانات أحيانا وبدونها أحيانا أخرى.
وعندما ينزح الماء في الإناء (الغرب) وهو الدلو الكبير المصنوع من الجلد يسحب حبل من الحبال فينسكب الماء على الحوض المبني على حافة البئر، ثم يتوزع الماء على القنوات لري النخيل ومحاصيل الحبوب والمزروعات الأخرى من خضار وغيرها، وعندما تنمو الذرة وتحمل السنابل بالحبوب يسمع الإنسان أصوات المقاليع وتسمى (النضف) في اللهجة المحلية، والتي يصوبها الأطفال نحو الطيور لأبعادها عن الحقل .
وعندما يهبط الفلاح الساني إلى (المقود) وهو المنحنى المنخفض الطويل (الذي يساعده في سهولة شد الحبل المتدلي في عمق البئر) فأنه ينادي على حماره (هيـّا أندر) أي أهبط. وعندما يحين وقت الصعود يقول: أو..و..و..و..دي أي عودي، كما يقولون أيضا (اطلع بارك فيك) أي اصعد لك البركة، وعندما يهبطون يقولون (قـوّة عافاك الله) أي قوة أعطاك الله الصحة، وبعد كل بيتين من الشعر يترنم الساني:
لمالي يالمالي -وهي الدندنة المعروفة بالدندنة حق السناوة.
وكما أشرنا إلى أغاني العمل الأخرى فأن أشعار السناوة تنظم على بحر الرجز وتدور حول مختلف شئون الحياة من حب وحنين وأمثال وهزل وأغاني للزراعة، والدين أحيانا،..الخ ومن المختارات الأخيرة نقتبس الأبيات التالية:
الله يشفي كبدتي وتبرا ** باللحم والدبّه وحضن عذرا
ياسـادتي ياساده آقفولي **عسا تقع في سعفكم حمولي
ويقــول:
إن كنت تبغى الحرث يا بن يعشوت
شــتـاك بـالـبلـده وبـُـرَّك الحــو ت
البـُـر مـن تـعـفـره [تزرعه] وأنت مــرتـاب
خـايـف من الحـلـّه وجـمع لسـبـاب
أن قـد صـلح مـثل الـرصاص ينــداب
وأن مـا صلح بعـنـا البـقر والكــتاب
السـاني يشـرد والطـبين طلاب
وآخـر غـريم يـقبـض بلانة البـاب
(والطبين) هو مالك الأرض الزراعية التي يشتغل فيها الفلاح ..
وتتضح أهمية وفائدة أغاني وأشعار السناوة للقائمين بهذا العمل في إنها مهنة تعتمد فيما تدره من محاصيل، وعلى عضلات الساني. وأشهر الناظمين لشعر السناوة هو بالطبع الشاعر العظيم (سعد السويني)، والذي باسمه نقلت الأشعار".
(انظر كتابنا: حضرموت في كتابات روبرت سرجانت).
وكما ذكرنا حفزت كتابات كارلو دي لاندبرج وروبرت سرجانت عدد من الباحثين المحليين ودفعتهم للكتابة عن السناوة وأغنيها، من بين هؤلاء الشاعر المرحوم ربيّع عوض بن عبيد الله، الذي استضافته ديوانية سيئون الثقافية مساء يوم الثلاثاء 14أكتوبر 2014 ضمن جلساتها النصف الشهرية في محاضرة ثقافية تراثية عن (مغاني السناوة والحرف في حضرموت) .وخلال تلك الجلسة أشار الشاعر ربيّع إلى معايشته لمرحلة السناوة وشارك في ترديد الأبيات التي يتغنى بها الاجداد وتعبر عن التنفس عن المعاناة. ومنها:
يا مطربه شلو بما تقولون
شلو أصوات الهجر بآل سيئون
مسكين من المقوت قوته
يطرد قفا الدنيا وهي تفوته
يابو علي كلن يشل كهله
كلف يولي والمكان لأهله
وفي ختام هذه السطور نشير إلى أن الباحث الظفاري حامد جمعان بن طاهر باوزير، الذي نشر كتابين: (الحياة الاجتماعية في ظفار) و(معجم اللغة الدارجة في ظفار)، قد قام بجمع وتحقيق أشعار السناوة في ظفار ونشرها في كتاب - لم نطلع عليه بعد- بعنوان: (ديوان شعر المقود ـ الموروث الشعري الزراعي في ظفار).