( الأول ) يسلط الضوء على الصراع السياسي في جنوب اليمن من 1818-2015 م (الحلقة1)

أجمع المؤرخون العرب والأجانب، مثلما أجمعت الكتب والأديان السماوية، على خصوبة بلاد اليمن وثراء ما قدمته إلى الحضارة الإنسانية

( الأول ) يسلط الضوء على الصراع السياسي في جنوب اليمن من 1818-2015 م (الحلقة1)

( الأول ) يسلط الضوء على الصراع السياسي في جنوب اليمن من 1818-2015 م (الحلقة1)

جنوب اليمن قبل الاحتلال البريطاني 

كتب / د. الخضر عبدالله:

 

قبل أن يستقر الماركسيون في الحكم، عاش جنوب اليمن تطورات سياسية هائلة، قلما عرفتها مناطق عربية أخرى، فقد تمكن اليمنيون من طرد الاستعمار البريطاني المعمر في البلد (128سنة)،بكفاح مسلح من أحزاب ومنظمات، وما إن أصبح الحكم في الجنوب  قادراً على تنظيم حياة سياسية عادية، حتى دخل الجنوب مرحلة من الاضطرابات والنزاعات الداخلية، بين هذه المنظمات والأحزاب ، واحتدم الصراع بين جبهتي التحرير والقومية ، وراح ضحيته الكثير من المناضلين من الطرفين، استغرق الخلاف إلى النصف الأول من الثمانينيات، وانتهت بحرب أهلية في 13ينايرعام ١٩٨٦ تخللتها مذبحة حقيقية، ثم اعقبها حرب 1994م طالت عدداً كبيراً من كوادر الحزب الاشتراكي الحاكم والدولة والجيش وأفضت هذه الحرب إلى انهيار فظيع في أجهزة الحكم وأدواته ، والقت بظلالها حتى عام 2022م . 

تفاصيل اوفى عن هذه الحقبة الزمنية ستتابعوا احداثها عبر (الأول)  في سلسلة تاريخية .. 

 

 

أجمع المؤرخون العرب والأجانب، مثلما أجمعت الكتب والأديان السماوية، على خصوبة بلاد اليمن وثراء ما قدمته إلى الحضارة الإنسانية، وعلى حب اليمنيين للعمل، وعدّوها إحدى حاضنات الحضارات القديمة، كما أشارت وتشير الكثير من المؤلفات التاريخية لبعض الرحالة والمؤرخين الأثريين اليمنيين والعرب والأجانب  الذين أسهموا في تدوين النقوش اليمنية القديمة "المدونة بالمسند" وترجمتها، وبذلوا جهوداً كبيرة في تجميع تلك النقوش المدونة من الخط المسند وتفسيرها وترجمتها، وأطلقوا العديد من التسميات والصفات على أرض اليمن منذ أقدم العصور، منها الجنوب العربي، والعربية الجنوبية، والعربية السعيدة، ويمنت، وتعني بلغة المسند "الجنوب واليُمن والبركة"، لأنها تقع يمين الكعبة المشرفة... إلخ> 

 

جنوب اليمن والتطورات السياسية 

 

قبل أن يستقر الماركسيون في الحكم، عاش جنوب اليمن تطورات سياسية هائلة، قلما عرفتها مناطق عربية أخرى. فقد تمكن اليمنيون من طرد الاستعمار البريطاني المعمر في بلادهم، (۱۲۸ سنة)، والذي يشبه في قدمه على الأقل الاستعمار الفرنسي في الجزائر وبذلوا جهودا كبيرة في توحيد الأجزاء المترامية الأطراف والمتعددة الأهواء السياسية والفئوية والقبلية والمناطقية في جنوب اليمن، وخاضوا مغامرة حقيقية في بناء دولة اشتراكية في بيئة صعبة وفي ظروف غير مواتية. وفي مجمل تحركاتهم ومشاريعهم السياسية كان جنوبيو اليمن ينظرون إلى مستقبلهم السياسي في إطار اليمن الطبيعي، وليس خارجه، وكانت حركاتهم السياسية اندماجية لا تقيم الفوارق المبدئية على الأقل بين العناصر الشمالية والعناصر الجنوبية؛ وعليه كان من الطبيعي أن يتسلم رئاسة الدولة، في إحدى الفترات الشمالي عبد الفتاح إسماعيل الذي كان علاوة على ذلك، المنظر الأكبر للحزب الاشتراكي، وكان من الطبيعي أيضاً أن يحتل شماليون مناصب وزارية رفيعة المستوى في الحزب والدولة طيلة الفترة التي تولى فيها الاشتراكيون السلطة، ولم تبرز انقسامات حادة بين الشماليين والجنوبيين في الحزب الاشتراكي اليمني إلا خلال حرب الانفصال (١٩٩٤) وبسبب هذه الحرب التي كانت تحمل معاني مضادة لتكوين الحزب نفسه ولتاريخه وللتاريخ اليمني عموماً، الأمر الذي يفسر جانباً من جوانب فشل المشروع الانفصالي وانهياره خلال شهرين وسنعود إلى ذلك بالتفصيل في مكان آخر من هذا التاريخ . لكن كيف وفي أية ظروف انبثقت السلطة الاشتراكية في عدن؟ للإجابة عن السؤال لا بد من العودة إلى الوراء.

 

عدن .. وسلطان لحج 

 

عندما احتل البريطانيون عدن كانت المدينة تابعة عملياً لسلطان لحج، وشكلاً الإمبراطورية العثمانية، وقبل ذلك كانت تابعة لأئمة اليمن وحكمهم المركزي في صنعاء. أما سلطان لحج فقد استقل عن سلطة الأئمة في الشمال وكان قائداً عسكرياً من قياداتهم وهو ينتمي إلى المذهب الزيدي، لكن تساهله في الشؤون الدينية وطموحه الشخصي ورغبته في إنشاء كيان مستقل يرتبط باسمه كل ذلك حمله على تغيير مذهبه وتبني الشافعية، مذهب أكثرية السكان، وبالتالي تأسيس سلطنة لحج والسيطرة على عدن، ومن بعده توارث الحكم أمراء من قبيلة العبادل تحولوا إلى سلاطين..

وقد سارت على نهج العبادل وسلاطينهم القبائل الأخرى الجنوبية التي تحولت إلى سلطنات بزعامة مشايخها، وأصبحت فيما بعد كيانات سياسية خاصة بفضل المعاهدات التي وقعتها مع الاستعمار البريطاني. وقد بلغ تسع في المرحلة الأولى، وإحدى عشرة سلطنة في المرحلة التالية تنقسم إلى قسمين غربي ويضم تسع سلطنات، العبدلي، الفضلي العقربي، الحوشي، العلوي، الصبيحي اليافعي، العولقي، الواحدي وشرقي ويضم (القعيطي، الكثيري)، فضلاً عن إحصاء إحدى عشرة مشيخة في إحدى المراحل بحيث بلغ عدد السلطنات والمشيخات اثنتين وعشرين سلطنة ومشيخة تتنازع عن السيادة على ما كان يعرف بجنوب اليمن قبل الاستعمار.

 وكانت هذه السلطنات والمشيخات - القبائل - فروع القبائل عشية الاحتلال البريطاني لعدن، تخضع بحسب الظروف لأئمة اليمن، لكنها تقع وفق النظام العالمي في حينه في دائرة النفوذ العثماني، وضمن أملاك الإمبراطورية العثمانية. لذا كان على العرش البريطاني أن يحصل على تفويض عثماني بالسيطرة على عدن قبل احتلالها. أما توسع البريطانيين في بقية مناطق الجنوب اليمني فقد تم تدريجياً فيما بعد، ودون استئذان الباب العالي بواسطة معاهدات حماية وصداقة مباشرة بين السلطة الاستعمارية في عدن و المشيخات والسلطنات المذكورة.

على الرغم من تطلع البريطانيين الدائم للسيطرة على عدن التي كانت عبارة عن ميناء خارج عن السيطرة الدولية على البحار والموانئ، والموزعة في حينه على الدول العظمى حيث كانت فرنسا تسيطر على البحر المتوسط، وروسيا تسيطر على البحر الأسود، وبريطانيا على البحر الأحمر .

 

دوافع احتلال عدن

 

 

 

كان للبريطانيين دوافع متعددة على عدن في سنة 1839م، وهي دوافع متشابكة ترتبط بالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية والقومية لبريطانيا في ذلك الحين، وهو قلق بريطانيا من سيطرة محمد علي باشا على طريقي مواصلاتها مع الهند عبر الخليج العربي والبحر الأحمر، الأمر الذي تطلب منها البحث عن مركز يمكنها من التصدي له، ووضع حد لتطلعاته، وأنها اهتدت إلى ان عدن هي انسب موقع لتحقيق هدفها، وهناك دافع آخر يجذب بريطانيا إلى عدن ذلك الميناء الهام وهو استخدامه محطة للفحم لتموين السفن البخارية البريطانية بعد التطور الصناعي الذي نتج عنه استبدال السفن الشراعية بهذا الاختراع الجديد في الملاحة البحرية مما يوفر الكثير من الوقت والجهد والمال، ان الصحافة البريطانية والهندية  لعبت دورا هاما في تزكية الاهتمام بالطريق الملاحي عبر البحر الأحمر الذي يشكل قناة طبيعية واسعة تمتد للشمال حتى تكاد تلقتي بالبحر المتوسط، فيسهل بذلك الاتصال بين القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا.. وهكذا اتجهت الحكومة البريطانية إلى عمل الترتيبات اللازمة لايجاد خط ملاحي منتظم عبر البحر الأحمر بواسطة السفن البخارية، بعد ان لقي هذا الاتجاه تأييدا كافيا لدى عدد كبير من الشركات والأفراد وأقره مجلس العموم البريطاني.

 

 

باشا .. يتحدى الإنكليز 

 

على الرغم من تطلعات بريطانيا إلى احتلال هذه المدينة الاستراتيجية كان لا بد أن يتدخل حدث كبير طارئ لتسريع عملية الاحتلال. فقد استولى والي مصر في حينه، محمد علي باشا، المنشق على الدولة العثمانية والذي يلقى تشجيعاً فرنسياً، استولى على سوريا ولبنان وتهامة (١٨٣٦ - ١٨٤٠) وأراد أن يحتل عدن لتوسيع سلطته في البحر الأحمر، الأمر الذي كان يشكل تحدياً كبيراً للإنكليز،ولهذا اتجهت بريطانيا إلى أحياء طريق البحر الأحمر حفاظا على مصالحها مما اضطرها إلى ان توثق علاقاتها بالضرورة مع محمد علي الذي يسيطرعلى الطريق البري من السويس إلى الإسكندرية. 

 

السيطرة على تجارة البن 

 

ويرجع بعض المؤرخين أسباب وصول قوات محمد علي باشا إلى اليمن في سنة (1833م، بعد انتصاره على الوهابيين إلى رغبته هو الأخر في السيطرة على تجارة البن اليمني المربحة حينذاك و لمواجهته تدخل رئيس الوزراء البريطاني اللورد بالمرستون ووجه خطابا لمحمد علي باشا يحذره من مغبة ذلك، ويؤكد أن لا حق له في البلاد العربية، وبادر إلى توقيع معاهدة رسمية مع الدولة العثمانية تتيح لبلاده التجارة في البلدان العربية.

 

هنيز .. في جنوبي الجزيرة العربية 

 

بدأ موقع عدن الممتاز في منتصف المسافة بين بومباي والسويس،إلى جانب وقوعها على خليجها المتميز بهدوئه، والذي يتيح لها استقبال السفن وتأمينها تأمينا كاملا أثناء القيام بعمليات التفريغ والشحن خلال جميع فصول السنة، وبدأت عدن  بكل مميزاتها الطبيعية كميناء ممتاز،وحرصت بريطانيا على جعل هذا الميناء " مستعمرة" تابعة للتاج الملكي، بما يساعده على إخضاع المنطقة وفرض الحد الأدنى من شروط التهدئة والهيمنة، وعلى حماية الطريق البحري المفضي إلى مستعمرة الهند من جهة. ومنطقة الخليج من جهة ثانية، وقد صارت عدن نقطة انطلاق للرحلات الاستكشافية والاستخبارية والتبشيرية التي كان الغربيون يقوون بها في سواحل شرقي افريقيا.

وفي القرن السادس عشر تعرضت عدن لحملات البرتغاليين الذين وجدوا فيها قاعدة صالحة للتجارة مع الهند والملايو وسيلان، غير ان سكان المدينة دافعوا ببسالة عن مدينتهم فألحقوا هزيمة بالمعتدين، فأضرم هؤلاء النار في المدينة وهم يغادرون ميناءها إلى غير رجعة، وبعد بضعة عقود تعرضت المدينة لمحاولة تسلل دنماركية باءت بالإخفاق هي الأخرى، ولاذ أسطول الغزاة بالفرار. 

ومن القرن الثامن عشر بدأ اهتمام بريطانيا بالبحث كان خصب وآمن لنشر سيطرتهم على الملاحة البحرية  بعامل التنافس المتزايد مع الفرنسيين الذين كانوا قد احتلوا مصر في 1797م. 

 

" هينز" يصف مدينة عدن 

 

 ولهذا قامت حكومة الهند البريطانية بتكليف الضابط البحري " ستافورد هينز " ( 1802- 1860) للقيام بعملية مسح جغرافي للساحل الجنوبي للجزيرة العربية، نظرا لما عرف عنه من نبوغ لباقة وحزم أثناء خدمة الطويلة في البحر الهندي، وقام أثناءها هذا الاسطول بعمليات المسح الجرافي للمحيط الهندي وبحار الصين والخليج والبحر الأحمر وسواحل افريقيا وجنوب الجزيرة العربية ، وقاس أعماق البحر كافة أجزائه بتلك المنطقة، وتجد الإشارة إلى ان " هنيز" قام بزيارة عدن على ظهر السفينة المذكورة ضمن برنامج الرحالات الاستكشافية التي نظمتها حكومة بومباي البريطانية، وقد ذكر " هنيز" انه على الرغم من ضعف الحركة التجارية فيها أثناء زيارته لها في مارس 1835م فضلا عن قلة عدد سكانها، فانه قد أعجب كثيرا بمميزاتها الطبيعية، وخاصة رأس عدن البركانية الممتدة تجاه البحر بمينايها الممتازين الصالحين لرسو السفن في مأمن تام من العواصف والأمواج.. وقال " هينز" عن ميناء عدن في تقرير بعث به لحكومته :" ان هذا المرفأ العظيم يمتلك من القدرات والإمكانات مالا يملكه ميناء آخر في الجزيرة العربية، وان ازدهار ذلك المرفأ دون شك سيكون من شانه ان يقضي على ميناء مخا وعلى بقية مواني البحر الأحمر فهو يحتل مركزا تجاريا ممتاز.

 وحاول " هنيز" ان يعطي لحكومته أيضا صورة واضحة عن مدينة عدن كما رآها أثناء  تردده عليها وهو يقوم بعمليات مسح الساحل الجنوبي للجزيرة العربية في منتصف العقد الرابع من القرن التاسع عشر، فقد قدر " هينز" تعداد سكان مدينة عدن حينذاك بحوالي (600) نسمة، كان من بينهم (250) يهوديا يمنيا، و(50) اخرين من التجار الهنود، بينما بقية هذا العدد من العرب المسلمين، كما" هينز" شاهد في مدينة ما يقرب من (90) منزلا بنيت من الحجارة، بينما كان معظم سكان المدينة يقمون في أكواخ بسيطة بنيت من الخشب والطين. 

أما بالنسبة لمميزات عدن التي بدت " لهينز" عند زيارته لها حينذاك، فقد جعلته يؤكد لحكومته انها افضا مكان بين كل الأماكن التي زارها وانسب موقع يمكن الاستفادة منه بجعله مخزنا ومحطة لتموين السفن البخارية البريطانية بكميات الفحم والمياه والمؤن اللازمة لها، كما أشار " هينز" إلى ان وقع عدن الجغرافي في منتصف الطريق بين بمومباي والسويس مفيد للغاية، فضلا عن ان ميناءها يتميز بأنه آمن وصالح لرسو السفن التي يسهل دخولها إليه ليلا ونهار، وانه ميناء رحب فسيح بدرجة كافية تمكن السفن الضخمة من الرسو فيه بأمان تام.

 

تواطؤ الدولة العثمانية  في احتلال عدن 

 

ويؤكد امين الريحاني تواطؤ الدولة العثمانية مع البريطانيين حينذاك لتحقيق أغراضهم في السيطرة على ميناء عدن الهام، وقد بدأ ذلك عندما لم تكتف الحكومة العثمانية بان تخول للبريطانيين حق ممارسة الاتجار في كافة أرجاء الدولة العثمانية في حرية تامة، بل انها لبت بعد ذلك مطلب البريطانيين في جعل عدن مركزا تجاريا لهم عبر الطريق الموصلة إلى الهند، ومايساعد على قبول هذا الرأي أن أهمية عدن بالنسبة للعثمانيين حينذاك كانت ضعيفة نتيجة لبعدها قرابة ميل عن عاصمة الدولة العثمانية ، ولهذا فإن بريطانيا ترتقب حجة تتذرع بها أو سببا تسوغ به تدخلها في عدن دون أن تبدو أمام العالم منتهكة لوعودها بالمحافظة على كيان الدولة العثمانية وسلامتها، حتى استغلت حادثة السفينة"دوريا دولت" لتفرض سيطرتها على عدن بالقوة. 

 

( للحديث بقية)