تاريخ ممنوع في ذاكرة العرب الجنوبيين
د. حسين لقور بن عيدان
تاريخُ الجنوب العربي، شأنه شأن تواريخ الشعوب الحرة، ثريّ بالأحداث والتحوّلات الكبرى، وحافلٌ بشخصياتٍ تركت بصماتها السياسية والفكرية على مسار المجتمع الجنوبي، بعضها أسهم في نهضته، وبعضها في كبوته. غير أن ما يميّز الجنوبيين هو أنهم لم يحوّلوا تاريخهم إلى أسطورة مقدّسة أو محرّمٍ لا يُمسّ، بل تعاملوا معه بوعيٍ ومسؤولية، محاولين استلهام العبرة من التجارب الماضية لبناء وعي جديد يستند إلى قراءة موضوعية للتاريخ كما كان، لا كما يراد له أن يُروى.
ومع ذلك، فإن المؤلم في التجربة الجنوبية أن هذا التاريخ الثري لم يبقَ في أيدي أبنائه، بل أصبح رهينة بيد الآخرين، يختارون منه ما يخدم سردياتهم، ويستخدمونه أداةً للنيل من قضايانا الوطنية، تحوّل تاريخ الجنوب إلى مادةٍ سياسية قابلة للتأويل والتوظيف، بينما غاب الصوت الجنوبي الحرّ القادر على إعادة بناء السردية التاريخية من منظورٍ وطني خالص، لا يخضع للمركزية اليمنية ولا لإملاءات الخارج.
لقد أثبتت وقائع التاريخ أن الجنوب العربي لم يكن يومًا أرضًا هامدة أو تابعًا، بل كان دائم المقاومة لكل أشكال الغزو الأجنبي والديني. فمنذ القرون الماضية، واجه أبناؤه الغزو الزيدي القادم من اليمن عبر مراحل متعددة، والغزو البرتغالي القادم من البحر، ووقفوا في وجه محاولات السيطرة السياسية والعقائدية على أرضهم. خاض الجنوبيون انتفاضاتٍ متتابعة في حضرموت ( ثورة بن عبدات) ومرخة (النسيين)وميفعة( المطهاف) وبيحان(بلحارث) وحطيب(ربيز) والصعيد(كور العوالق)، وبرزت شخصيات وسلاطين وطنيون رفضوا الإملاءات البريطانية كالعفيفي في يافع، والفضلي في أبين، والعبدلي في لحج وقادة سياسيون تم نفيهم خارج الوطن، تلك المواقف وغيرها تشكل صفحات مشرقة من التاريخ الجنوبي، لكنها غابت عمدًا عن كتب التعليم وعن الذاكرة الرسمية، وكأنها لم تكن.
لقد جرى اختصار ذلك التاريخ الغني لاحقًا في سرديةٍ واحدة صاغها المنتصرون في اليمن وأتباعه في الجنوب تحت شعار واحدية الثورة اليمنية وتوقف التاريخ عند حدث واحد في 14 أكتوبر 1963. كانت تلك السردية أداةً سياسية لإلغاء الخصوصية الجنوبية وإلحاق الجنوب قسرًا بالمركزية اليمنية، فتم تشويه هوية الجنوب وتبديد إرثه الوطني وتجريده من حقه في سرد تاريخه بلسانه هو، لا بلسان غيره. وهكذا تحوّلت الذاكرة الجنوبية إلى مساحةٍ مؤمّمة سياسيًا، يُعاد إنتاجها لتخدم خطاب الوحدة المفروضة لا لتعبّر عن حقيقة التاريخ.
إن استعادة الوعي بالتاريخ الجنوبي ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وطنية. فالتاريخ ليس ماضيًا يُروى، بل ذاكرة حيّة تصنع الوعي وتشكل الموقف. ومن يملك تاريخه يملك وعيه، ومن يملك وعيه يستطيع أن يحدد مستقبله بإرادته الحرة. أما من يسلم تاريخه للآخرين، فسيجد نفسه يعيش داخل روايةٍ لم يكتبها هو، ويُحاكم بميزانٍ لم يصغه بيده.
اليوم، ونحن نعيد النظر في مسارنا الوطني، علينا أن ندرك أن معركة الجنوب ليست فقط سياسية أو عسكرية، بل هي أيضًا معركة على الوعي والذاكرة. فإعادة كتابة تاريخ الجنوب من منظورٍ وطني خالص هي الخطوة الأولى نحو استعادة السيادة الفكرية والثقافية، والتمهيد لاستعادة السيادة السياسية. إن تحرير التاريخ من التزوير هو تحريرٌ للهوية نفسها، ومن دونه سيبقى الجنوب عرضةً للتشويه والنسيان، مهما حقق من انتصارات على الأرض.