تاربة حاضرة لا تزال معمورة
مسعود عمشوش
تاربة من المدن القديمة في حضرموت، وتقع على بعد حوالي 20 كيلومترًا شرق سيئون و13 كيلومترًا غرب تريم. وتبلغ مساحتها مايقارب 225 كيلو مترا مربعا. يحدها غربا كوت النخر المقابل لحوطة سلطانة بنت علي، وشرقاً يحدها كوت نخر محوَلِه، ومن الجنوب منابع وادي تاربة، ومن الشمال مسيال وادي حضرموت والجبل التي تطل عليه عقبة كتبه. وتتوزع أحياء تاربة المبعثرة في وادي تاربة ووادي حضرموت الكبير بين بلاد باعبد الله والسحيل محسن والسحيل القبلي ووادي بن سلمان وحراد وغنيمة. ويمكن اعتبار قارة الشناهز وشرمة امتدادا لتاربة. واليوم تاربة تتبع جغرافياً وإداريًا لمديرية سيئون.
وقد كرس لها ابن عبيد الله في كتابه (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت) صفحات طويلة لتاربه جاء فيها: "تاربه أرض واسعة، فيها قرى كثيرة، أكثرها عن يمين الذّاهب من سيئون والحسيّسة في الطّريق السّلطانيّة أو العبّاديّة ـ إلى تريم، وبعضها عن يساره. فأمّا الّتي عن يمينه: فأوّلها قرية يقال لها: السّحيل القبليّ، وكذلك يقال لها: سحيل بدر، يعنون بدر بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق. وكان الملك لأبيه عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق، فتنازل عنه في سنة (١٠٢٤ ه) لأخيه بدر بن عمر.. وفي جنوب السّحيل حراد، وهو موضع بسفح جبل، فيه قرية صغيرة، وأكثر أرضه إلى الآن لمقام الشّيخة سلطانة بنت عليّ الزّبيديّة. وسكّانه آل سيف من العوامر، وينتسبون إليها بالخدمة، وكان فيهم رجال يهابون العار، ولا يبالون طعن الشّفار، لا تحلّ حباهم الخطوب، ولا تعرف وجوههم القطوب؛ وفيها ناس من الحرّاثين آل عبد الشّيخ المنتشرين بقرى تاربة ونخيلها؛ ومنهم الرّجل الصّالح سالم عبد الشّيخ، له عمل مبرور، وسعي مشكور، وتواضع جمّ مذكور. وفي جنوب حراد وادي عبد الله بن سلمان، ثمّ حصن الدّولة آل جعفر بن أحمد. ثمّ غنيمه وهي مسكن آل أحمد بن محمّد بن عليّ بن بدر بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق ولأحمد بن محمّد هذا أربعة أولاد جعفر وعبد الله انقرضا عن الذّكور. ومحسن بن أحمد، وهو والد السّلطان غالب بن محسن وأخيه عبد الله. وعليّ بن أحمد والد أصحاب قيطع. وفي الشرق قارة الشّناهز الأثرية، وكان بها جماعة من آل عبد الودود، فصهر إليهم أحمد بن محمّد، وبقي يقطع الطّريق ويخيف السّابلة حتّى تاب على يد الحبيب إسماعيل بن أحمد العيدروس، وعاد بأمره إلى واد في تاربه، ولهذا السّبب بقي عنده وعند أعقابه احترام لآل إسماعيل. ومن وراء غنيمه جنوبا: غيل بدر بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق، وعنده آثار ديار صغيرة.
ومن ورائه: مكان لآل خميس، يقال له: حريز، وهو منبع عيون ماء تدفع إلى غيل بدر.
وعند ما يرجع الذّاهب من أعالي وادي تاربه باتجاه الشمال.. يجد ديارا بسفح الجبل الشّرقيّ وفيها جامع كبير، يقال لتلك الدّيار سحيل محسن، نسبة إلى السّيّد محسن بن حسين ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم. وبها كان يسكن الشّيخ أبو بكر بن سعيد الزّبيديّ السّالف ذكره في حوطة سلطانة.
ومن سكّانها آل عبد الباقي العامريّون؛ منهم آل كرتم، [أجداد صديقي عمر بن طالب العامر مؤلف رحلتي إلى النيد]، كان من آخرهم: الشّيخ بخيت بن عبد الله بن كرتم رجل له شهامة ومروءة.
وقريبا من سحيل محسن كان يسكن الشّيخ صالح بن عائض بن جخير وأسرته آل جخير، وهو رجل من لهاميم العرب، يهاب اللّوم، ولا يبالي كثرت أم قلّت.
وفي شرقي السحيل تقع بلاد باعبد الله، وهي عاصمة تاربه، ويقال لها: باعبد الله؛ لأنّ الشّيخ عبد الله بن تميم باعها في أوّل ما باع من أرض تاربه، فقيل: باع عبد الله، ثمّ سقطت العين بالتّدريج وتداولته الألسن حتّى صار علما عليها، ويتأيّد هذا بما سبق عن الشّيخ عبد الله بن تميم في السّحيل القبليّ".
وفي عام 1897 قام الرحالة الألماني ليو هيرىش بنشر سرد كامل لرحلته في كتاب بعنوان (رحلة إلى جنوب الجزيرة العربية: أرض المهرة وحضرموت).
إضافة إلى السرد التفصيلي لمختلف محطات الرحلة، يتضمن الكتاب كثيرا من المعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسة والاثنوجرافية واللغوية حول حضرموت. ويذكر هيرش أنه وصل وادي حضرموت سنة 1893 واتجه شرقا واستقبله السلطان منصور بن محسن بن غالب الكثيري والشاعر عبد الله بن صالح باقطيان في سيؤن. ثم اتجه إلى تاربة ومكث فيها بضعة أيام زار خلالها غنيمة والحزير ووادي بن سلمان والغبراء وبلاد باعبد الله وديار آل غريّب، وذلك قبل أن يغامر بالذهاب إلى تريم، أملا أن يعثر فيها على من سيقوده إلى قبر النبي هود وبئر برهوت. لكن حالما وطأت قدماه تريم شكك السادة في أهداف زيارته وأرغموه على مغادرتها بعد ساعات قليلة من وصوله.
واليوم يبلغ تعداد سكان تاربة ما يناهز أربعين ألف نسمة، ونسبة نمو منتظمة، على الرغم مما أصابها من إقصاء بعد شق الطريق السريع الذي يربط سيئون بتريم وساه.
وتشتهر تاربه اليوم - التي يعمل كثير من أبنائها في الدوائر والمؤسسات الحكومية والتجارية في سيئون - بتربية الأغنام المستورد من الصومال وببعض ممارسي الطب الشعبي كالحجامة وتعمير كسور العظام. وتشتهر كذلك بصناعة الحلوي التي تنافس حلوى باصيبع في سيئون. لهذا انصحكم عندما تأتون من تريم أو من الساحل باتجاه سيئون أن تسلكوا الطريق الداخلية التي تمر وسط تاربة وتحديدا ديار آل لغريب وتتوقفوا تشتروا كيلوا حلوى حارة حمراء سيقيكم قطعا من شدة البرودة التي بدأت هذه الليالي تهيمن على وادي حضرموت.
ولا با تنتسين يا ليلة خمس وعشرين.. في تاربة:
ومنذ كنت في الخامسة من العمر، في مطلع ستينيات القرن الماضي، كان أبي، الله يرحمه، يحرص على اصطحابي معه، أنا من بين جميع أولاده الخمسة، إلى مسقط رأسه تاربة كل ليلة 25 رمضان. وكان يؤكد (يزكن) على سعيد جروان، صاحب سيارة لاندروفر قديمة خضراء، ليحجز لنا مكانا وينقلنا بعد العصر إلى وادي بن سلمان بتاربة التي تقع على بعد 15 كلم شرقي سيؤن، لنحضر ختم مسجد (الوادي.. وادي بن سلمان) الذي يصادف ليلة خمسة وعشرين. وعادةً كان أخي سالم يسبقنا في الوصول إلى هناك.
وكنا، للإفطار والعشاء، ننزل ضيوفا على المرحومين: سالم وعوض بن مزروع ابني خال أبي. وكان الثاني منهما قد فتح أول دكان في الوادي منذ ذلك الحين بعد أن عاد نهائيا من المهجر. وكنا نتسحّر عند صالح بن مزروع في حراد الذي عاد هو أيضا من المهجر وأصبح موظفا في البنك. وأكثر من تناول السحور كنّا نحرص عندهم على سماع) الفاتحة (الطويلة التي يتحفنا بها المرحوم عميران بن مزروع. وبعد الفاتحة كان علينا، في السنوات التي يتزامن فيها رمضان مع فصل الخريف، المرور وسط الوادي لأداء صلاة الفجر في المسجد. وأتذكر البرد القارس جدا الذي كان علينا تحمله وسط الوادي.
وفي صباح اليوم الثاني اعتاد أبي أن يأخذني معه إلى منطقة (آل غُرَيِّب) التي تقع على الطريق بين سيؤن وتريم. وهناك يفرجني على النخيل و(الخريب) التي تعود ملكيتها لآل عمشوش، والتي لا تزال إحداها قائمة حتى يومنا هذا، وهي ملاصقة ببيوت آل محسن بن كرثيم العامري، وبإحدى مزارع آل العامري. وأتذكر أنني في إحدى المرات أجهشت بالبكاء حينما جلس أبي فترة طويلة في إحدى غرف تلك الخرابة وقال لي إنه ولد فيها وإن أمه المزروعية قد اضطرت لمغادرة وادي بن سلمان للعيش في “هذا الدار”، الذي لم يعد في الواقع داراً.
وبما أن أبي كان حينها قد بدأ يتقدم في السن فقد كان، عندما يسأله أحد العوامر: “يا سعيد الزقر ذا لي معك عاده ولدك؟”، يرد عليه باعتزاز: نعم ذا آخر العنقود.
وفي بعض السنين كنت أرافق أولاد الأقارب من الوادي، من آل بن مزروع وآل بن سعد، وبعض القادمين من سيؤن، لاسيما ربيع وهادي أبناء حمود بن سلمان، للذهاب في جولات طويلة في الشعاب القريبة، وكنا نغامر أحيانا ونصل إلى منبع وادي (الحزير) ويسقي بساتين غنيمة التي انطلق منها ذات ليلة غالب بن محسن الكثيري ليؤسس السلطنة الكثيرية الثانية في سيئون، والذي كان بعيدا حقا، ويشرف على منبع وادي جذع المطل على سيؤن، وكان معظمنا يضطر أن (يكعم (من مياه الوادي رغم أننا سنؤكد جميعا عند عودتنا أننا صيام. وفي بعض الأحيان كنا نعرّج على (شحرة الغبراء) التي أصبحت الآن محاطة بمركز سكني استقر فيه كثير من سكان وادي بن سلمان، وشخصيا كنت أصر على المرور عند (عِلْب الشيخة سلطانة بنت علي)، وسط المسيال، لنقرأ على روحها الفاتحة.
وعندما يصادف الخامس والعشرين من رمضان يوم جمعة كان أبي يقرر البقاء في الوادي إلى العصر لنصلي الجمعة وبعدها مباشرة الخمسة الفروض في مسجد الوادي. فأهل الوادي اعتادوا أن يؤدوا الصلوات الخمس دفعة واحدة كل آخر جمعة من رمضان، ويؤكدون أن ذلك يمكن أن يشفع لهم عن أي تقصير يمكن أن يحدث في أداء الفروض خلال العام المنصرم. والله أعلم
