حريضة مقر (سين) آلهة حضرموت القديمة

 مسعود عمشوش

هناك أماكن عليك أن تزورها قبل أن تموت، منها، إضافةً إلى مكة والمدينة: قرن سيؤن الطويلة، وشارع الهلال في توَّاهي عدن، وباريس في فرنسا، وحريضة عند مدخل وادي عمد في غرب حضرموت.

بالنسبة لحريضة، فقد عرفتها أولاً خلال زياراتي القصيرة لها في ثمانينيات القرن الماضي مع البعثة الفرنسية لدراسة اللهجات العربية، ثم مع جاري الرحّالة عمر عبد الرحمن السقاف (الكاتلي)، الذي رافقته مرتين لزيارة بلدات وادي عمد، بدءاً من حريضة وانتهاءً ببلدة عمد نفسها. وكان الأستاذ عمر، الله يرحمه، يتردد على تلك البقاع بدراجته النارية المتواضعة قبل أن يشتري سيارته السوزكي الصغيرة، التي لا يسوقها بنفسه. وكان حقاً موسوعة متكاملة؛ فقد كان يقدم لي شرحا وافيا عن كل قرية وبلدة نمرُّ بها في طريقنا. وكانت علاقته جيّدة بالسكان والمناصب في حريضة وعمد ودوعن؛ لهذا في المرة الأولى، حينما وصلنا حريضة، صلينا ركعتي الظهيرة في جامعها، ثمّ استقبلنا المنصب العطاس، في غرفته (أم أربعة أسهم) الواسعة، وقدم لنا فناجين الشاي، واطلعنا على بعض المخطوطات التي لا تزال بحوزته. ثمّ رتّب الفاتحة وكلّف أحد مساعديه بمرافقتنا إلى سفح الجبل لنشاهد البيت الذي سكنت فيه فريا ستارك التي قضت نحو ثلاثة شهور في حريضة برفقة عالمتي الآثار جيرترود كاتون- تومسون وإلينور وايت جاردنر في شتاء 1937-1938. وزرنا كذلك المنطقة التي نقبن فيها بحثاً عن معبد الشمس، وكذلك إحدى القباب التي قرأنا فيها الأدعية والفاتحة.

وحريضة عرفتها أيضا من خلال النصوص الكثيرة التي كتبها كل من ابن عبيد الله السقاف والهمداني وبامخرمة وباحنان وفان در ميولن وفريا ستارك ورودينوف والزميل الدكتور أحمد باطائع الذي حضرت في باريس مناقشة رسالته للدكتوراه حول المباخر في مملكة حضرموت سنة 1988.

فبالنسبة لابن عبيد الله، فقد بدأ نصه عن حريضة بنقل ما كتبه الطّيّب بامخرمة الذي يقول في كتابه (نسبة البلدان): سمّيت حريضة باسم قبيلة من حمير، ويسكنها السّكون من كندة. ومما نقله: إنّ آل عليّ بن سالم في حريضة من بني يزيد بن معاوية بن كندة ... وحريضة كانت تسمّى قريضة، ترد إليها القوافل من صنعاء ومأرب، وكانت بها أسواق، وهي من بلاد عاد القديمة. وعن آثار حريضة كتب ابن عبيد الله "وفي غربيّ حريضة كثير من الآثار القديمة، وقد أسفر الحفر في الوقت الأخير في آثار حريضة عن بيوت مطمورة تحت الأرض، فيها معابد للقمر، لا تخلو عن آثار قيّمة، ربّما كان للحافر عنها غرض في الإخفاء. وحول معبد إله القمر الّذي ظهر هناك كثير من المباخر، وعلى بعض الحجارة كتابات قديمة ترجع إلى أكثر من ألفي سنة، وفي بعضها ما ترجمته: (يا لبان .. يا كوكبان .. بلّغ الإله السّلام)، والجزء الأوّل من هذه الجملة مشهور بكثرة على ألسنة العامّة بحضرموت، ورجوع عهد الكتابة إلى أكثر من ألفي سنة يعرّف أنّ لمثله اتّصالا بأديان الحضارم القديمة، وكثير من آل حضرموت كانوا يعبدون الشّمس ويسمّونها (الإلاهة)... وفي شمال حريضة إلى الشّرق: بئر عميقة، ينزل إليها بدرج طويلة، كلّ درجة منها في طول قامة الإنسان، مشهورة ببير غمدان، يتعالم الخلف عن السّلف بكثرة كنوزها وذهبانها، ولهم عنها أخبار كثيرة، يقصدها السّيّاح، غير أنّهم متى نصفوها.. انطفأت عليهم النّار الّتي يجرّبون بها.. فينثنون؛ لأنّ ما تنطفئ به النّار.. تفيض به الرّوح، ولكنّ بعضهم يفكّر في تغطية وجهه بغطاء سميك يمكن معه التّنفّس في أنابيب تبقى على رأسه. وتلك البئر في قارة إلى جانب الجبل المسمّى غمدان، وهو في شرقيّها إلى جهة الشّمال، وفيه آثار حصن بالية".

أما المؤرخ محمد بن علي زاكن باحنان، فقد كتب في (جواهر تاريخ الاحقاف): "سكنت حريضة قبائل الدهم وآل سلمي (سلمه) من قبيلة الجعدة، ومناصبهم آل العطاس، وأيضا آل شملان، وأصلهم يعتقد من بني هلال، كما جاء في دبليو اتش انجرامس المستشار البريطاني الأسبق. وقضاعه سكنت المنطقة".  

وتّعد حريضة إحدى أهم وأقدم المدن في حضرموت، ومن أهم المواقع الأثرية والسياحية فيها. وتحتوي على آثار ونقوش قديمة تعود إلى عصور ما قبل الميلاد. ففيها كما ذكرنا دفن شداد بن عاد. وهي كذلك موقع لمعبد الإله القديم (سين)، الحافظ والحامي لحضرموت وسكانها، ويقال إنها بنيت على أنقاض مدينة مذاب (أو مذبح؟)، مقر معبد الإلـه سين. وهناك من يقول إن اسم حريضة تصحيف لقريضة. ومن أسمائها: سين وسن وريبون والفيحاء.

وكما ذكرنا حريضة مكان كانت به معابد لأكثر من آلهة؛ فإضافة إلى سين هناك معبد حول، والمقة، ذات حميم، ومعبد مثيم المهدي للإله سين معبد آلة القمر أو آلة (التبخر) للتبخير، و فيه عثر على كثير من المباخر التي نقش عليها الهلال وقرني الوعل. وكان الحضارم قديما يستغيثون بجميع تلك الآلهة، ولا نزال نسمع بعض النساء يرددن: "يا سين عليك" و"يا لبان يا كوكبان ... ابعد إبليس والشيطان". وفي السابق كانوا يرددون "يا لبان يا كوكبان ... بلغ الآلهة السلام"!

وفي شمال شرق حريضة تقع بئرغمدان، وهي هوة أو مغارة قديمة لها درج طويل، كل درج بطول قامة إنسان، ويقال إن فيها آثار شداد بن عاد، وتعود للحقبة العادية وعرضها 120 قدما وعمقها 150 قدما. 

ومن المؤكد أن حريضة هي أكبر منطقة حظيت باهتمام علماء الآثار البريطانيين والفرنسيين والروس والمحليين في حضرموت كلها. ومن المؤكد أيضا أن الكثير من البعثات التي قامت بالتنقيب في حريضة والمناطق المحيطة بها مثل ريبون، قد قامت بسرقة كثير من القطع الأثرية. ومن بين تلك البعثات بعثة جيرترود كاتون-تومسون سنة 1938. وقد شاركت فيها فريا ستارك، التي لا تخفي أن بعض القطع قد سلمت لحاكم عدن وأنتونين بس. ولحسن الحظ أن حاكم عدن قد أودع بعضها في متحف الآثار بصهاريج الطويلة. (انظر كتابنا: حضرموت في كتابات فريا ستارك، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، 2004)

وتاريخيا كانت مدينة حريضة محطة مهمة في طريق تجارة البخور التي تمر في مملكة حضرموت القديمة التي كانت من أكبر ممالك جنوب الجزيرة العربية، التي يتردد اسمها في كثير من المصادر الكلاسيكية. وقد أسهم سكانها القدماء في بناء الحضارات وشيدوا طرقا ومعابد قنوات الماء وزرعوا الأرض، وأقاموا علاقات تجارية مع بلاد الشام واليونان ودول الشرق. ويذكر باحنان أن "حريضه بلاد أسواق، ترد إليها القوافل من كل من صنعاء ومأرب عبر طريق ينزل عبر أحد سفوح جبالها القبلية. وهي من بلدان عاد القديمة، وبها عين ماء تجرى ونخيل لا يحصى، وثمار كثيرة، إلا أن معن بن زايده قام بتخريب هذه العين الجارية. ولا تزال آثارها باقيه ليومنا هذا. ويذكر كذلك أن شداد بن عاد وجد ميتا على سرير من ذهب مطرز بالجواهر في المغارة الواقعة في الجبل الشرقي من حريضه ووجد عند رأسه لوح من الذهب حسب رواية الشيباني عن أرم ذات العماد". 

وتشكل حريضة، الواقعة في ملتقى للطرق بين عمد ووادي دوعن ووادي حضرموت ووادي العين، محطة تجارية في غاية الأهمية، واحتفظت إلى وقت قريب بشيء من أهميتها التجارية. وكان أهل دوعن، الذين امتزجوا كثيرا بأهل حريضة، يتوجهون إليها لشراء وبيع منتوجاتهم. وكان سكان حريضة مرتبطين كثيرا بسكان وادي دوعن وبشكل خاص بالهجرين التي لجأ إليها علي بن حسن العطاس بعد أن تشاجر مع ذويه في حريضة، وقبل أن يتوجه منها إلى منطقة (الغيوار) الذي كانت حينها مليئًا باللصوص وقطاع الطرق، والتي أصبحت اليوم: المشهد. ويضم كتابي (كتابة الذات في حضرموت) دراسة طويلة عن سيرة علي بن حسن العطاس: سفينة البضائع وضمينة الضوائع). 

وإذا كان جبل صيلع يطل على الهجرين من جهة الجنوب الغربي فعندل إمرؤ القيس الكندي تعد اليوم أحد أحياء حريضة. وربما أجملها. وربما لهذا السبب اختيرت حريضة عاصمة لمديرية دوعن في التقسيم الإداري الجديد على الرغم من أنها لا تقع في دوعن، وعلى الرغم من أن معظم الدواعنة أصبحوا اليوم - بعكس الأمس- يفضلون التوجه إلى سيؤن أو المكلا لمعاملاتهم التجارية. 

وتشتهر حريضة اليوم بجمال طبيعتها وتراثها الثقافي والسياحي الغني؛ ففيها (مكتبة العطاس)، وهي من أقدم المكتبات في حضرموت. وهناك المساجد والقباب والبيوت الطينية القديمة، التي أصبح جزءٌ كبيرٌ منها آيلا للسقوط. 

ومن أهم الضواحي والقرى التابعة لحريضة والجديرة بالزيارة: البدع الطالعي والبدع الهابطي والبديعة والجدفرة والحوير والجرشة ونفحون والمنيظرة وشرج آل علي بن سالم، وعندل، البلدة التاريخية القديمة التي قال عنها الهمداني في (صفة جزيرة العرب ص167): "عندل مدينة عظيمة للصدف وكان أمرئ القيس بن حجر الكندي قد زار الصدف". وهناك كثير من ضواحي حريضة التي شهدت مؤخرا نهضة عمرانية وتجارية مهمة، منها (جرب الفقر) أو ديار بن كشميم الهلابي، التي يمكن أن تصبح مركزا فندقيا مهما في تلك المنطقة السياحية.

وإش توّاهي عدن عند بن داعر مع حريضة وبير زين؟

الفاتحة.