حضرموت ... لُب الصراع على الهوية والسيادة في الجنوب العربي

‏حضرموت اليوم تعيش وضعًا سياسيًا جديدًا. من بعيد، تبدو مجرد جزء من مشهد الحرب والأزمة التي تعصف بالمنطقة، لكن الحقيقة أعمق بكثير.

هذه المحافظة، التي كانت دائمًا ركيزة الجنوب العربي وتاريخه وطليعة النضال السلمي الجنوبي، تختبر من جديد قدرتها على مقاومة مشاريع الهيمنة، بالضبط كما فعلت عبر قرون طويلة. والحقيقة، إذا حاولنا فهم حضرموت خارج سياقها الجنوبي، سنجد أنفسنا بعيدًا عن الدقة. لأن أي نقاش جاد عن حاضر حضرموت ومستقبلها يجب أن يبدأ من جذورها السياسية والتاريخية.

منذ فجر الممالك العربية الجنوبية القديمة، كانت حضرموت واحدة من الأعمدة الأساسية في منظومة الممالك العربية الجنوبية قبل الميلاد. وقفت جنبًا إلى جنب مع قتبان وأوسان وحِمْيَر، واحتفظت باستقلاليتها مع تعدد مراكز القوة، لكنها بقيت مرتبطة بالجنوب من عدن إلى ظفار. رغم أن المنطقة شهدت تنافسًا بين النفوذ الحبشي والفارسي والزيدي في فترات مختلفة، إلا أن حضرموت صمدت كاستثناء، ونجت من الخضوع لأي قوة خارجية. السبب؟ طبيعة المجتمع الحضرمي نفسه مجتمع مدني متماسك يعرف كيف يدير شؤونه بنفسه.

كل هذا يشرح لماذا كانت حضرموت دائمًا ملاذًا للهاربين من صراعات الدين والقبيلة، ولماذا ظل أهلها أقرب لفكرة الدول المحلية التي يصعب احتواؤها أو ابتلاعها. اليوم، تحاول بعض القوى، سواء الحوثية أو الإخوانية، أن تعيد تشكيل حضرموت ديموغرافيًا وسياسيًا، مستغلة ما جرى في 1994 . لكن مشكلة هذه المشاريع واضحة: لا تملك جذورًا اجتماعية حقيقية داخل حضرموت، وتعتمد فقط على نفوذ طارئ سرعان ما يتلاشى والتاريخ شاهد على ذلك.

إذا نظرنا للمشهد الآن، سنلاحظ أن الصراع في حضرموت ليس مجرد تنافس بين قوى محلية. هناك مشروعان متضادان بالكامل: مشروع يريد دمج حضرموت قسرًا في مركز يمني منهار يقوده حزب الإخوان المسلمين، وآخر ينطلق من عمقها كجزء أصيل من الجنوب العربي. الجنوب الذي اليوم يعيد بناء كيانه السياسي، وحضرموت واحدة من أعمدته الأقوى. ليس فقط بسبب وزنها الجغرافي أو الاقتصادي، بل لأنها تملك شرعية تاريخية ضاربة في القدم.

في ظل كل هذا، يبرز سؤال واضح: هل ما يجري اليوم في حضرموت قادر فعلًا على يمننة هويتها السياسية؟ الجواب الواقعي: حتى في أشد الأحداث الجارية هي مجرد موجات عابرة في بحر طويل من الصراعات التي مرت بها المنطقة. حضرموت عبر التاريخ أسقطت تجارب الغزاة ورفضت كل الحركات الدينية والسياسية التي حاولت اختراقها، من الإباضية إلى الخوارج والزيدية. واليوم، القوى الجديدة - إخوان وحوثة - ليست استثناء، وستواجه نفس المصير.

لذلك نقول :حضرموت ليست مجرد ملف في أزمة اليمن. هي جوهر الصراع على الهوية والسيادة في الجنوب العربي. إذا تجاهلنا سياقها الجنوبي، ستبقى رؤيتنا ناقصة. حضرموت، التي قاومت كل محاولات الهيمنة عبر تاريخها، تستعد اليوم لتعيد تأكيد دورها مع تحرير الوادي من وكر المخدرات وتهريب السلاح والإرهاب، كأحد أعمدة المستقبل الجنوبي منطقة متجذرة لا يمكن لأي قوة خارجية اقتلاعها، مهما تغيرت الظروف.