نحن والاستشراق الجديد
نحن والاستشراق الجديد
كتب / أ.د. مسعود عمشوش
في مطلع سبعينيات القرن العشرين نظـّـم المستشرقون الغربيون آخر مؤتمر لهم (مؤتمر المستشرقين الدولي التاسع والعشرون - باريس 1974)، إذ أنهم أعلنوا في ختامه فض قوام الكيان التنظيمي الذي كان يجمعهم وينظم عملهم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويعود ذلك لأسباب عدة، ليس أقلها أهمية الجوانب الأمنية، التي جعلت إقامة العلماء والرحالة ورجال الاستخبارات الغربيين في كثير من بلدان الشرق أمراً محفوفاً بالخطر. وقد أدى انتهاء مرحلة الاستشراق العلمي التقليدي القائم على علماء موسوعيين وأساتذة مرموقين إلى بروز (استشراق معاصر)، تديره معاهد تزعم أنها علمية وإنسانية، ومؤسسات استخباراتية غربية توظف أكبر عدد ممكن من أبناء الشرق نفسه، وتأطيرهم ضمن المراكز البحثية ومعاهد التعليم والتدريب والمنظمات الإنسانية غير الحكومية، الغربية والمحلية، وتكليف الأفضل من منتسبيها للكتابة عن بلدانهم ورفد المؤسسات الغربية، العلمية والاستخباراتية، بشتى أنواع المعلومات، وذلك من خلال الدفع المباشر، أو تمويل الأبحاث، أو تحت مسمى دعم بعض المراكز والمؤسسات البحثية والعلمية والتعليمية والإنسانية المحلية.
وكم هي كثيرة المعاهد والمنظمات الغربية في بلادنا. ومن اللافت أن عددا منها استطاع فعلا أن يعمل بالتعاون مع مؤسساتنا الحكومية بما في ذلك الجامعات. فخلال عقد التسعينيات كان المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية في صنعاء يطلب المشاريع البحثية بالتعاون مع نيابات الدراسات العليا والبحث العلمي في جامعاتنا. وتتضمن معاهد اللغات الأجنبية آليات لاختيار أفضل الطلبة والباحثين لمواصلة أنواع محددة من الدراسات (فقط) في الغرب.
وقامت المعاهد الأوروبية المختلفة بتقديم تمويل سخي لكثير من الباحثين (في الغالب هواة وبحاجة للمال) لإنجاز بحوث وأوراق بسيطة عن موضوعات لا تمت بالتنمية في بلادنا بصلة، مثل الحجاب وختان المرأة واليهود...الخ. والأدهى من ذلك كله أن بعض تلك المؤسسات قدمت تمويلا، نقديا أو في شكل جوائز ومنح بل وميداليات، لعدد من المبدعين في بلادنا لكتابة روايات وقصص قصيرة تعالج قضايا اضطهاد المرأة والانحراف الجنسي والمثليين واليهود. وكم هم كثير حقا المبدعون الذين تسابقوا على كسر التابوهات والسياسية والجنسية والدينية، ومهدوا للتطبيع مع اليهود. وبفضل ذلك قطفوا المال والجوائز والميداليات و....
وفي الحقيقة، اعتماد الأجانب على المعلومات المستقاة من السكان المحليين يعدُّ ظاهرةً قديمةً نوعاً ما؛ فكثيرٌ من كبار مستشرقي القرن التاسع عشر اعتمدوا على معلومات مقدمة من طرف ثاني في كتاباتهم عن الشرق أكثر من اعتمادهم على البحث الميداني، أو الاحتكاك الفعلي بالسكان المحليين بشكل عام. فعدد من الباحثين الأجانب يكتفون، خلال نزولهم الميداني، بالتواصل مع المخبرين والعلماء والموثقين المحليين للاستفادة مما لديهم من معلومات شبه جاهزة. وبالنسبة لحضرموت، تحديدا، هذا ما فعله الكونت السويدي لاندبيرج، وروبرت سرجانت الذي ارتكزت معظم دراساته على كراسات رحيّم، أو وليندا بوكسبرجر مع المؤرخ جعفر السقاف والمؤرخ عبد القادر الصبان وغيرهما.
ومن أبرز المستشرقين الذين كتبوا عن حضرموت اعتمادا على معلومات مستقاة من طرف ثاني: المستشرق الهولندي فان دن بيرخ الذي كلفه الحاكم العام لجزر الهند الهولندية في باتافيا [جاكرتا حاليا]، سنة 1881، بإعداد دراسة مفصلة عن العرب المقيمين في الأرخبيل الهندي. وفي سنة 1886، قام بيرخ بنشر نتائج دراسته في كتاب وضعه باللغة الفرنسية وأسماه (حضرموت والمستعمرات العربية في الأرخبيل الهندي). وعلى الرغم من أن فان دن بيرخ لم يزر أبدا حضرموت فقد كرس الجزء الأول من كتابه (حضرموت الموطن الأول لعرب الأرخبيل الهندي) لوصف حضرموت التي كانت حينئذ لا تزال تعد إحدى المناطق المجهولة في شبه الجزيرة العربية بالنسبة للأوروبيين. وقد قام المؤلف بجمع معلومات كثيرة عن حضرموت من عدد من المهاجرين الحضارم في باتافيا ومدن الأرخبيل الهندي الأخرى في نهاية القرن التاسع عشر بطريقة منهجية قام بشرحها في مقدمة كتابه، وذكر أن أبرز مخبريه كانوا: عبد الله بن حسن بابعير والسيد عثمان بن يحيى. وقد ظل ذلك الجزء من الكتاب لفترة طويلة المرجع الوحيد عن حضرموت، واعتمد معظم الرحالة الذين زاروا حضرموت . ويحتوي القسم الثاني من الكتاب على كثير من المعلومات المتعلقة بنشأة المستوطنات والسلطنات والجاليات العربية في الأرخبيل الهندي، وحياة المهاجرين الحضارم والمولدين في إندونيسيا وسنغافورة، وطباعهم، ومصادر دخلهم، ومواقفهم وتطلعاتهم السياسية، وتأثيرهم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني في بقية السكان، واندماجهم وسط السكان المحليين، ولغتهم، ويعد اليوم أهم مرجع للقيام بأي دراسة اثنولوجية اجتماعية أو تاريخية للعرب الحضارم في اندونيسيا. وقد قمنا بنشر ترجمة كاملة له في كتابنا (حضرموت والمستوطونات العربية في الأرخبيل الهندي) سنة 2020.