هوامش حول تاريخ الرواية البوليسية

مسعود عمشوش

الرواية البوليسية، أو رواية الجريمة الغامضة، جنس سردي نثري خيالي تتمحور فيه الأحداث عادة حول عقدة مثيرة تتجّسد في ارتكاب جريمة ما لم يتم التعرف مباشرة على مرتكبها، ثم تتبع مسار التحري أو التحقيق الذي يجريه محقق (أو مخبر أو تحري خاص أو ضابط شرطة)، يقوم بجمع أكبر قدر ممكن من الأدلة والقرائن للكشف عن هوية المجرم وحل اللغز.

وتحتوي الرواية البوليسية المعيارية على ستة عناصر ثابتة: الجريمة أو الجنحة، الدافع، الجاني، الضحية، طريقة التحقيق. وهناك من يمزج الرواية البوليسية ورواية الخيال العلمي اللتين يميّز بعض النقاد بينهما. وتتميز الرواية البوليسية في الغالب بالقصر، إذ أن القارئ يريد أن يقرأها في جلسة واحدة، أو خلال رحلة قطار لا تتجاوز الساعتين. وفي الحقيقة بمقدورنا تصنيف كثير من تلك الروايات ضمن جنس القصة القصيرة.

ويمكننا البحث عن أولى تجليات الأدب البوليسي في مسرحية (أوديب)، التي ألفها اليوناني سوفوكليس في القرن الخامس قبل الميلاد، ففيها يستميت البطل أوديب للكشف عن قاتل أبيه الملك لايوس، الذي كان هو (أوديب) من قتله دون أن يعرف هويته. 

وفي الأدب العربي القديم يتضمن كتاب (أخبار الأذكياء) لابن الجوزي (القرن التاسع الميلادي) قصة (قضية اليد المقطوعة) التي رشحتها الناقدة مالتي دوجلاس لتكون أول تجليات الأدب البوليسي في العالم. وفيها ينجح الخليفة المعتضد في القبض على رجل ينكر أنه القاتل، إلا أن الخليفة يستكمل التحقيق ويواجهه بالأدلة التي تثبت قيامه بالجريمة. كما يحتوي كتاب (ألف ليلة وليلة) على عددٍ من الحكايات التي تعد نماذج ممتازة من ذلك الأدب الذي يعتمد على الإثارة والجريمة الغامضة، مثل (حكاية الوزير نور الدين مع شمس الدين أخيه)، و(حكاية الخياط والأحدب واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع بينهم) و(حكاية (التفاحات الثلاثة)، التي تُقدَّم فيها جثة فتاة الشابة في صندوق للخليفة هارون الرشيد، فيأمر الخيفة وزيره جعفر بالعثور على الجاني، ويمهله ثلاثة أيام لذلك وفي حال فشله سيكون مصيره الإعدام. وفي نهاية اليوم الثالث، بعدما استعد الوزير للموت بسبب فشله في العثور على الجاني، يأتي شخصان ويدّعيان أنهما هما من قتلا الفتاة. لكن خلال روايتهما لوقائع الجريمة يتضح عدم صدقهما، فهناك شبهة تحوم حول عبدٍ كان قد أخذ تفاحةً وربما يكون قد تسبب في قتل الفتاة. وعندئذ يعطي هارون الرشيد ثلاثة أيام أخرى جعفر لكي يعثر على ذلك العبد المذنب، ولكنه يفشل مرة أخرى في العثور على الجاني، ويودع عائلته ويتوجه للمقصلة، وفي طريقه يلاحظ بالصدفة أن ابنته تحمل تفاحة كانت قد حصلت من خادمه ريحان، ويتبين أنه هو الجاني، وهكذا يحل اللغز ويعفي الخليفة عن العبد ريحان.

ومع ذلك فالرواية البوليسية، التي أصبحت أجاثا كريستي أبرز كتابها في العالم، لم تنشأ إلا في منتصف القرن التاسع عشر، حينما أصبحت الصحف والمجلات الغربية تحرص على جذب القراء من خلال نشر حلقات من روايات مسلسلة وفي الغالب ذات طابع بوليسي مثير، وذلك لضمان استمرار شرائها بانتظام من قبل القراء.

 ويعد الأمريكي إدجارد ألان بو ( 19 يناير 1809 - 7 أكتوبر 1849)  أول من وضع أسس الرواية البوليسية المعيارية الحديث، التي سار على نهجها الكثير من رواد الأدب البوليسي من بعده، وعلى الرغم من أنه لم يؤلف سوى ثلاثة قصص من هذا الصنف، إلا يعد اليوم المؤسس الفعلي لجنس الرواية البوليسية الحديثة. وتلك القصص الثلاث هي: (القتل المزدوج في شارع المشرحة) التي تعد أول رواية بوليسية، ظهرت فيها شخصية المحقق (أوجست دوبان) لأول مرة، بجانب زميله المجهول الذي يروي القصة، وفي سنة 1842 نشر ألان بو (لغز ماري روجيه)، التي تتضمن أيضا شخصية المحقق أوجست دوبان وزميله للمرة الثانية. وفي سنة 1844 نشرت الرسائل المسروقة، وهي ثالث رواية يظهر فيها كذلك المحقق أوغست دوبان والأولى التي تدور الأحداث حول جريمة غير القتل.

وفي نهاية القرن التاسع عشر ظهرت في نصوص الاسكتلندي آرثر كونان دويل (22 مايو 1859 - 7 يوليو 1930) أشهر شخصية محقق في الروايات البوليسية: شيرلوك هولمز، بصحبة صديقه البروفيسور تشالنجر.  وقد نشرت أول رواية مهمة لكونان دويل (دراسة باللون الأحمر) في سنة 1887، وظهر فيها لأول مرة المحقق شارلوك هولمز. 

وفي تلك الحقبة عرف الأدب الفرنسي شخصية المغامر الخيالي روكامبول في سلسلة روايات بيير بونسون دو ترايل، التي تجسد أحداثها الصراع الأبدي بين الخير والشر، وبين العدل والظلم، والتي تأثرت كثيرا بروايات كونان دويل.

وفي مطلع القرن العشرين، وقبل ظهور نصوص أجاثا كريستي، ابتكر الكاتب الفرنسي موريس لوبلان سلسلة روايات أرسين لوبين التي لاقت إقبالاً كبيرًا، وترجمت إلى عشرات اللغات بعد نشرها مباشرة. وقد حوّلت معظم روايات لوبلان إلى أفلام سينمائية ومسلسلات كرتونية للأطفال. ولم يكن هذا المغامر النبيل يسعى من وراء مغامراته إلى كسب المال، بل للكشف عن المجرمين الحقيقيين وتقديمهم للعدالة. وبفعله ذلك أصبح منافسا لأبرز رجال الشرطة والمفتشين. وتتضمن سلسلة روايات موريس لوبلان روايات (أرسين لوبين اللص الظريف عام 1907)، التي ظهر فيها البطل لوبين لأول مرة، وتلتها (الإبرة المجوفة) عام 1909، ثم (المثلث الذهبي عام 1918)، و(المفاتيح الغامضة عام 1920).

وفي تلك السنة (سنة ١٩٢٠) بدأت البريطانية أجاثا كرستي في نشر نصوصها البوليسية التي بلغ عددها ست وستين رواية وأربع عشرة مجموعة قصصية قصيرة، يقوم بدور المحقق في معظمها هيركيول بوارو وتساعده الآنسة ماربل. ولا تزال كتب (ملكة الجريمة) إجاثا كريستي، التي تربعت على عرش الرواية البوليسية لنصف قرن، تتبوأ الصدارة في عدد الترجمات والإصدارات والمبيعات؛ فوفقًا لدائرة الترجمة باليونسكو لا تزال مؤلفات أجاثا كريستي هي الأكثر ترجمة ومبيعا. ومن بين أشهر تلك الروايات (ثم لم يبق أحد) التي بيعت منها أكثر مئة مليون نسخة.

وتربط أجاثا كريستي، التي لم تكف طوال حياتها عن التطواف في مختلف أصقاع العالم، بين إحساسها العظيم بالمتعة واختراعها لحبكات روايتها المتميزة بتنوع الأحداث والألغاز والغموض والشخصيات، والمواقع المثيرة: كالأماكن الأثرية، والمدن الشرقية، والمعابد، والقصور ذات طابع، والفنادق المميزة، والقطارات أو الطائرات.

وفي العادة توظف كريستي أسلوبا سرديا يستند إلى الحيلة أو الخدعة والغموض وإمكانية تعدد التأويلات المتناقضة لإثارة فضول القارئ. كما تتميز لغتها بالسلاسة والانسيابية، وتخلو من الأطناب في الوصف أو الإطالة، اللذين يملهما عادة قارئ الرواية البوليسية.

يتبع الروية البوليسية عربيا، (أحمد مهران) لذي يزن الشرجبي نموذجا