هنري دي مونفريد ومغامراته في البحر الأحمر وخليج عدن
عدن (الأول) مسعود عمشوش:
في تسعينيات القرن الماضي عثرت في مكتبة مركز رامبو (المركز الثقافي الفرنسي بعدن) على نسخة من كتاب المغامر الفرنسي هنري دي مونفريد (مغامرات في البحر الأحمر)، الذي يحتوي على ثلاثة أجزاء؛ الأول (أسرار البحر الأحمر)، والثاني (مغامرات في البحر)، والثالث (الرجل الذي خرج من البحر). وقمت حينها بترجمة الفصل العشرين من الجزء الثاني (مغامرات في عدن)، الذي يحتوي على معلومات مهمة عن الحياة في عدن في مطلع القرن العشرين، لاسيما عن فئة من المهمشين التي يطلق عليها الجبرت، وقد نشرت الترجمة أولا في العدد الخامس من مجلة (التواصل)، التي كنت أدير تحريرها، ثم ضمنتها كتابي (عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين، مطبعة جامعة عدن ٢٠٠٢).
ودفعتني الأحداث التي تشهدها اليوم مناطق البحر الأحمر وخليج عدن، إلى أستكمال تقديم هنري مونفريد ومغامراته في القرن الإفريقي.
أولا: من هو هنري دي مونفريد؟
في 14 نوفمبر 1879 ولد هنري جورج دانيال دي مونفريد (1879 1974 ) في بلدة لافرانكي بمقاطعة أوديه الواقعة شمال غربي فرنسا. وكان أبوه جورج دانيال رساما وعاشقا للأعمال الفنية والترحال. وفي سنوات طفولته تعرف على عدد من أصدقاء والده، منهم الرسامان هنري ماتيس وبول غوغان. واصطحبه أبوه بقاربه إلى جيبوتي وهو لا يزال في الرابعة من عمره.
ومن المعلوم أن القرن الإفريقي كان، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مسرحا لعمليات التجسس وتهريب الأسلحة وأنواع مختلفة من التجارة والمغامرة. ومن المؤكد أن الشاعر الفرنسي آرثر رامبو قد شارك في تهريب الأسلحة عبر المنطقة الواقعة بين عدن وهرار ومقاطعة تشوا في إثيوبيا.
وبعد أن فشل الشاب هنري مونفريد في إكمال تعليمه والعثور على عمل مناسب في باريس، فضّل الاقتداء بآرثر رامبو والتوجه جنوبا. وركب البحر من مارسيليا باتجاه القرن الإفريقي، وذلك سنة ١٩١١، وكان عمره حينذاك 32 عامًا. واستقر في جيبوتي، واختار أن يمارس فيها تجارة القهوة والجلود. لكن جرأته وحماسه لم تروقا لحاكم جيبوتي الفرنسي، باسكال الذي أمر بمراقبة كل تحركاته. وكان من الصعب خرق تعليمات هذا "الطاغية"، الذي كان صديق صاحب المؤسسة التي يعمل فيها مونفريد.
وسرعان ما تخلى هنري مونفريد عن العمل الذي أبقاه في جيبوتي سنتين واشترى مركبًا شراعيًا أطلق عليه (فتح الرحمن). وبرفقة اثنين من البحارة وصبي بدأ يعيش حياة مليئة بالمغامرات المحفوفة بالمخاطر، وجرب البحث عن اللؤلؤ. ومن الطبيعي أن يؤدي البحث عن المحار بسرعة إلى دفع مونفريد إلى تجارة الأسلحة. وبدأ مونفريد بعد ذلك حياة التهريب، واعتنق الإسلام سنة 1914، ومارس مختلف أنواع التجارة: اللؤلؤ، والأسلحة، والحشيش.
لكن الحرب العالمية الأولى اندلعت؛ وخلالها طلبت منه السلطات الفرنسية التجسس على المواقع التركية وراء البحر الأحمر من خلال التقاط الصور. واتهم البريطانيون سلطات جيبوتي بتسليح العرب. وكان يجب أن يكون هناك شخص مذنب. ورأت السلطات الفرنسية في مونفريد وسيلة لصرف الانتباه، وبالتالي التغطية على المؤسسات الرسمية. وبالنسبة للمغامر، كان جزاؤه السجن ثم المنفى.
بعد الحرب استقر مونفريد في أوبوك القريبة من جيبوتي، ثم في إثيوبيا. وبعد ذلك التقى بالروائي الفرنسي جوزيف كيسيل الذي شجعه على كتابة مغامراته، فنشر مونفريد أول كتبه: (أسرار البحر الأحمر) سنة 1931، الذي يمكن اعتباره رواية سيرذاتية، وقد ضمنه لاحقا كتابه (مغامرات في البحر الأحمر. وقد حقق (أسرار البحر الأحمر) نجاحاً كبيراً، وأصبح مونفريد مراسلاً صحفياً.
وقبل وقت قصير من الحرب الثانية، تبنى مونفريد أفكار الفاشيين الإيطاليين، وخدم الإيطاليين في غزوهم لإثيوبيا سنة 1935. وانضم إلى القوات الإيطالية، وشارك في عدد قليل من المهام الجوية على الأراضي الإثيوبية، وكاد أن يصاب أثناء الطيران من قبل "محاربو أوجادين". وعاد إلى إثيوبيا، في أعقاب كارثة جيش الدوتشي، وتم القبض عليه من قبل البريطانيين وتم ترحيله إلى كينيا. ثم أطلق سراحه، وعاش فترة من الزمن على الصيد فوق قمم جبال كينيا، وسرد مغامراته في كتاب (من هرار إلى كينيا). وفي سنة 1947، عاد إلى فرنسا واستقر في إنغرانديس في إندري، حيث مارس الرسم والعزف على البيانو، وكتب كثيرا من الكتب المتنوعة، التي يزيد عددها عن السبعين كتابا. وتوفي مونفريد سنة 1974 عن عمر يناهز 95 عامًا.