مقدمات طه حسين لـ 72 كتابا في معارف شتى في مجلد واحد

يجمع  كتاب "مقدمات طه حسين: ما قدّمه عميد الأدب العربي لغيره" معظم المقدمات التي وضعها عميد الأدب العربي لعدد من الكتب التي توقف عندها أو نالت أعجابه، وشاء أن يكرمها أو يكرم أصحابها. وضم الكتاب مقدمات طه حسين لبعض الترجمات التي أنجزها هو بنفسه.

مقدمات طه حسين لـ 72 كتابا في معارف شتى في مجلد واحد

(الأول) كتب / علي عطا:

كتاب "مقدمات طه حسين: ما قدّمه عميد الأدب العربي لغيره" (بيت الحكمة)، من جمْع علي قطب وتقديمه، ليس الأول في مجاله، ولكن يمكن اعتباره أشمل مما سبقه من أعمال جمعت ما كتبه عميد الأدب العربي من مقدمات لكتَّاب آخرين، وأدق أيضاً، بفضل جهد بحثي ضخم بذله قطب، بالرجوع إلى عدد كبير من المصادر ذات الصلة، وبالملاحظات النقدية الذكية التي أبداها إزاء أكثر من سبعين مقدمة، أملاها صاحب "الأيام"، وأيضاً إزاء ما سبق أن صدر من كتب تتناول الموضوع ذاته، مع العلم أن أيَّا منها لم يصل إلى العدد الذي وصل إليه قطب، وهو أصلاً قاص وروائي ومحرر كتب يُشهْد له بالتميز. كتب طه حسين تلك المقدمات لغيره من الكتاب والمترجمين ممن رأى أن أعمالهم ذات أهمية للثقافة العربية. وفيها تقديم لكتب شارك في إخراجها بالتحقيق أو المراجعة أو الإشراف، وهناك مقدمات المترجمات التي أخذ على عاتقه أن يترجمها لقيمتها الفكرية التي تجعل مؤلفيها قريبين من عقله وقلبه"، كما يقول قطب في تعليقه الذي يتصدر الكتاب. وراعى قطب الترتيب الزمني، فقد رأى – بحسب قوله - أنه يقدم ما يشبه سيرة الحركة الثقافية من خلال صوت طه حسين (1889 – 1973)، في فترة زمنية تقترب من نصف قرن. ويبدأ الكتاب بمقدمة طه حسين لكتاب "صحف مختارة من الشعر التمثيلي غند اليونان"، واستهلالها كالتالي: "لم أكد أبدأ في الجامعة المصرية درس التاريخ اليوناني في هذه السنة الدراسية، حتى رضيَّ قومٌ وسخط آخرون. وكان الذين رضوا أقل الناس عدداً، والساخطون أكثرهم جمعاً، وأضخمهم جمهوراً". وفي هذا الكتاب الصادر عام 1920، جمع طه حسين ترجمته لعدد من المسرحيات لأيسكولوس وسوفوكليس وفي مقدمته له يتجلى أعتداد طه حسين بنفسه وإشارته إلى ما يواجهه من ضغوط في تدريس التاريخ اليوناني بالجامعة المصرية، وإصراره على أن تكون الأمة المصرية مستوعبة لحضارات الأمم السابقة كافة، بحسب تحليل علي قطب.

عتبات نصية

ومن المقدمات جاءت في نهاية كتاب علي قطب، مقدمة طه حسين لكتاب "حياة طبيب" وهو سيرة ذاتية لأحد أشهر أطباء مصر الحديثة الدكتور نجيب محفوظ. وكتب طه حسين مقدمة الطبعة الثانية لهذا الكتاب والتي صدرت عام 1966. وصاحب هذا الكتاب هو أستاذ طب النساء والتوليد في القصر العيني، وحمل الأديب الكبير نجيب محفوظ اسمه تيمناً بهذا الطبيب الذي ولد صاحب "أولاد حارتنا على يديه في 11 ديسمبر / كانون الأول عام 1911. ولاحظ طه حسين في تلك المقدمة أن نجيب محفوظ الطبيب؛ "لم يكن صاحب عناية بالطب وحده وإنما كان مشاركاً في الأدب أيضاً. كان يقول الشعر، فقد روى لنا قليلاً من شعره، وكان يقول الزجل، وقد روى لنا نموذجاً من زجله. وسواء مضى في الشعر أم لا فالشيء الذي ليس فيه شك هو أن له ذوقاً أدبياً ملحوظاً". أما المقدمة الأخيرة التي ضمها الكتاب، فقد كتبها طه حسين لكتاب "الدين والفن في أدب ثروت أباظة" لمهدي بندق، وتعد كما يقول قطب علامة على اهتمام عميد الأدب العربي بالأدباء الشبان وإنتاجهم، وعلاقته الطيبة بثروت أباظة. ونشر الكتاب عام 1968، وتوجد له مقدمة تحليلية لشكري عياد، بالإضافة إلى مقدمة طه حسين العامة التي اتخذت شكل رسالة للمؤلف.  

ويقول قطب إنه أثناء رحلة جمع تلك المقدمات، واجه بعض الصعوبات منها: مشاكل في توثيق بعض الأعمال في المكتبات؛ لأن طه حسين كتب مقدمات لكتب شارك في تحقيقها ومراجعتها أو أشرف على إصدارها؛ لذا فلا تذكر هذه الكتب ضمن مقدماته، وجاء بعضها متفرقاً في كتاب حمدي السكوت ومارسدن جونز، كذلك نسبت إليه في فهارس مكتبة الإسكندرية مقدمة كتاب Peintres etrangers d Egypte premiere partie وهي ليست له إنما لابنه مؤنس، بالإضافة إلى الجهد في الترتيب الزمني الذي يتطلب كثيراً من المراجعات. وهذا الجهد في جمع مقدمات طه حسين - يصيف قطب - يعد استثماراً لمفهوم العتبات النصيّة، التي يمكن أن تدرس العناوين والمقدمات والإهداءات والكلمات المحيطة بالكتب للهيئة التي أخرجت الكتاب بحيث يصبح الإنجاز الكلي لعتبات طه حسين شاملاً في الدراسات المستقبلية.

عصر من الإبداع

ورأى قطب أن طه حسين يمتد في مقدماته زمنيّاً، فتعيش أفكاره في نصوص أخرى، إنه يرسم لصوته مدارات جديدة تصله بقارئ آخر، هذا ذكاء من عقل يؤمن بالتعدد والتنوع ويجيد فن الصحبة ممارساً وجوده النفسي والاجتماعي في سياق يتجاوز حضوره المباشر، وفي الوقت نفسه يتجاوز حال المستعين بغيره إلى دور المعين للآخرين. ويرى قطب كذلك أن مقدمات طه حسين تدل على عصر من الإبداع الراقي المتنوع المعارف والأشكال. وقراءة هذه المقدمات تضيف خبرة جمالية للقارئ العام، وتفيد الباحثين المتخصصين في معارف شتى، تقدم مادة مهمة لمن يكتب فن السير ويؤرخ للحياة الأدبية العربية. وتعد دراسة حمدي السكوت ومارسدن جونز الببليوغرافية – في تحليل قطب - عملاً محورياً يحدد أعمال العميد والدراسات التي حظيت بها، "لذلك كانت هذه الببليوغرافية أمامي حين فكرتُ في جمع المقدمات. ومع ما تميزت به هذه الدراسة من درجة عالية من الدقة، إلا أن هناك مقدمات لطه حسين لم ترد فيها مثل: كتاب سهير القلماوي "ألف ليلة وليلة" 1945، وديوان الشاعر السعودي أحمد عبد الغفور عطار "الهوى والشباب" 1946، بالإضافة إلى غياب تواريخ بعض المقدمات مثل "أطفالنا كيف نسوسهم" ليعقوب فام الذي صدر عام 1948". وتشمل قائمة السكوت وجونز عناوين 42 كتاباً قدم لها طه حسين، كما لم تذكر مقدماته لأعمال قام بها المفكر السوري شكري فيصل في كتاب "كتب ومؤلفون" 1980. ويضم كتاب فيصل 26 مقدمة اهتم الجامع بتصنيفها وقراءتها وقد قسَّمها إلى أربعة محاور هي: نصوص المقدمات "عامة"، ومقدمات كتب النتاج الأدبي المعاصر "النثر – القصة – الشعر"، ومقدمات كتب النتاج – الأدب المترجم، ومقدمات كتب التراث، ويرى قطب أن هذا عملاً رائداً في وقته يحسب لعالم جليل عاشق للغة العربية. ونشر نبيل فرج في مجلة الفهرست (العدد السابع عام 2004) خمس مقدمات لطه حسين.

وقام التونسي حسن أحمد جغام بإضافة بعض المقدمات لما جمعه شكري فيصل، فجاء كتابه "مقدمات طه حسين" 2016 يشمل نحو 31 مقدمة التزم فيها بالتصنيف الموضوعي أيضاً بالمحاور الآتية: مقدمات في النثر والقصة، مقدمات في الشعر، مقدمات في الدراسات الأدبية والتاريخية، مقدمات في التراث، مقدمات في الأدب الغربي. وقد وقع خطأ عند جغام بنسبة قطعة من قصة "أم حواء" لعلي الدوعاجي على أنها مقدمة من طه حسين للقصة، وهذا الأمر ليس صحيحاً – يقول قطب – "لأن علي الدوعاجي أديب ساخر كتب جزءاً من قصته "أم حواء" في شكل مقدمة من طه حسين للقصة" ص15. ولاحظ قطب أن القطعة هذه مصدرها كتاب "سهرت منه الليالي"، الذي جمعه ونشره عز الدين المدني، وهي محاكاة من الدوعاجي لأسلوب طه حسين ولمقدمات النقاد عموماً للقصص.

وتوصل قطب إلى أن مقدمات طه حسين لأعمال ليست من تأليفه، عكست التقاءً مع حاجة الثقافة العربية لعمارة تقيم قواعد حداثتها وتجمع متناثرات الأشعة التي تصدر متفرقة في سبيل نهضتها. ويضيف أن هذه المقدمات تتنوع في اختياراتها الفكرية والجمالية، متشابكة مع فروع معرفية متعددة لها صلة وثيقة بالجامعة التي كان صوتَها الفذ والأب الروحي لكل المتخرجين فيها، "ولا أقصد هنا جامعة القاهرة فقط، إنما الجامعة بمفهومها الشامل التي تضم البرامج الأكاديمية في العالم العربي كله". ومن هنا رأى قطب أن الفضل يعود لطه حسين في وضع الجامعة داخل السياق الثقافي العام دون عزلة أو تحديد لإعدادٍ مهني فقط، إنما هي جامعة بمعنى الإحاطة بالمعارف والفنون والآداب بالتنظير والتطبيق والحوار البيني، ربما هذا ما جعل الجامعة تقدم للحياة الثقافية الأدباء والمفكرين والتشكيليين من المهندسين والأطباء وعلماء الجينات، وهذا يؤكد الدو الفعال الذي اختاره لها طه حسين منذ البداية إلى الآن وفي المستقبل.   

تحديث الوعي

ويقول قطب إن مشروع طه حسين لا توقفه مصدات زمنية أو مكانية أو أصوات تنال التطور الفكري اللازم لمسيرة الثقافة العربية، مهما تعالت هذه الأصوات في أوقات الضعف والشتات؛ "بل نستطيع القول إن ما نقدمه اليوم بجمع مقدماته يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمشروعه، وهذا ما يجعل لهذا الكتاب مكانه في دائرة تحديث الوعي العربي". ففكرة المقدمات – يضيف قطب - جديرة بالتحليل الثقافي؛ لأنها مؤشر لسياق التواصل التفاعلي الذي اتخذه طه حسين منهحاً لتغيير التوجه العقلي العربي نحو الحداثة المستندة إلى حرية الإبداع في المقام الأول، وتداخل المعارف بتضافر التخصص والموسوعية، وإقامة ظهير للقوى الناعمة يكون محركاً للركود الروحي والذهني. وفي الخلاصة فإن هذه المحاور – كما يرى قطب - تجعل مقدمات طه حسين متعددة الاتجاهات؛ ما بين مصاحبة الأعمال الإبداعية والأبحاث العلمية والدراسات الثقافية والترجمة، بالإضافة إلى احتضان هذه المقدمات لأجيال من منتجي الفكر الجاد الذي غطى أكثر من نصف قرن؛ هي الفترة التي شهدت التحول الدال على وعي العقلية العربية حين تشارف العصر الجديد في الربع الأخير من القرن العشرين الممتد أثره إلى الآن؛ فيما يطلق عليه ما بعد الحداثة أو زمن العولمة، هذه الحقبة التي أصبح العالم فيها فضاءً متشابكاً متقاطعاً لا يمكن فصل المتخاطبين خلف إقليميات مغلقة، لقد استشرف طه حسين العهد الآتي، وأقام جسراً بين زمنه وزماننا.