ما تداعيات التصعيد الاقتصادي في اليمن والسيناريوهات المستقبلية؟
حذر مركز المخا من عودة التصعيد العسكري في اليمن، وانهيار الهدنة، بعد التصعيد الذي برز مؤخرًا في الملف الاقتصادي، مؤكدًا أن هذا الخيار مرتبط بفشل التفاهمات بين السعودية والحوثيين.
وكشف المركز في ورقته التي حملت عنوان "تداعيات التصعيد الاقتصادي في اليمن والسيناريوهات المستقبلية"، عن تضافر مجموعة مِن العوامل والأحداث، المحلِّية والدولية معًا، لتشكِّل قاعدة مهمَّة انطلق مِنها البنك المركزي اليمني لاتِّخاذ مجموعة مِن القرارات المهمَّة والحاسمة، والمتعلِّقة بالقطاع المالي والمصرفي.
وقال المركز، إن أهمَّ تلك العوامل هو استمرار الحوثيين في اتِّخاذ إجراءات جديدة استهدفت مالية الحكومة الشرعية، المعترف بها دوليًّا، والقطاع المالي والمصرفي أيضًا، وبشكل شبه مستمر، خاصَّة بعد توقيع "اتِّفاق الهدنة"، في 2 أبريل 2022م، والتي توَّجها الحوثيون بإصدار عملة معدنية مِن فئة (100) ريال يمني، وطرحها للتداول ابتداء مِن 31 مارس 2024م.
وأضاف، هناك "بعض العوامل الجيوسياسية والأمنية، كقرار تصنيف الحوثيين "جماعة إرهابية" محلِّيًّا، في أكتوبر 2022م، وتصنيفها كذلك مِن قبل الولايات المتَّحدة الأمريكية "جماعة إرهابية"، عقب أحداث البحر الأحمر، منتصف فبراير 2024م، بعد أن تمَّ شطبها مِن لائحة الإرهاب مِن قِبل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، في فبراير 2021م".
وأشار إلى أن التصعيد الاقتصادي قد يؤدي نحو الصدام المالي والنقدي، مؤكدا أن القضايا الاقتصادية لعبت دورًا محوريًّا في النزاع اليمني، فقد استغلَّت جماعة الحوثي قرار الحكومة الشرعية بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية ورفع الدعم عن المشتقَّات النفطية للتغطية على الانقلاب الذي نفَّذوه نهاية عام 2014م، وتمكَّنوا عبره مِن بسط سيطرتهم على مؤسَّسات الدولة، وجني الموارد الاقتصادية بدلًا عن الحكومة. فقد قام الحوثيون بحشد الآلاف مِن مقاتليهم بزعم التظاهر والدعوة إلى إلغاء رفع الدعم عن المشتقَّات النفطية وإسقاط الحكومة، قبيل اجتياحهم للعاصمة ومِن ثمَّ سيطرتهم بالقوَّة على أجزاء واسعة مِن البلاد.
حيثيات التصعيد والمواقف المحلية والدولية:
وأشار مركز المخا إلى حيثيات التصعيد، مؤكدا أن قرار الحوثيِّين بسكِّ العملة المعدنية مِن فئة (100) ريال يمني كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل التصعيد الأخير، خاصَّة بعد انتهاء أزمة توقيف البنوك بسبب الشبكة الموحَّدة.
ونوه إلى أن هذا القرار قد أثار ردَّة فعل حاسمة مِن قبل البنك المركزي في عدن، تمثَّل بإعلان قرار نقل البنوك واستبدال الأوراق النقدية القديمة.
ولفت إلى أن سفارات الولايات المتَّحدة الأمريكية والاتِّحاد الأوربِّي وبريطانيا وفرنسا أدانوا سكَّ العملة باعتبارها أمرًا يعمِّق تقسيم الاقتصاد اليمني، ويتعارض مع جهود الحكومة الشرعية في مكافحة الإرهاب.
وحظيت إجراءات وقرارات البنك المركزي بالتأييد الرسمي مِن قبل مجلس القيادة الرئاسي، إذ اعتبرها إجراءات مهمَّة للقضاء على التشوُّهات النقدية ومواجهة التضخُّم وتعزيز موقف العملة الوطنية وحماية أموال المودعين.
وأكد أن البنوك اليمنية تعيش أوضاعًا صعبة بسبب ازدواجية القرارات الصادرة مِن البنك المركزي وتلك الصادرة مِن الحوثيِّين، حيث يمنع الحوثيُّون البنوك بالقوَّة مِن نقل مراكزها إلى عدن، بالإضافة إلى وجود مشاكل فنيَّة تتعلَّق بنقل كوادرها في هذه الإدارات إلى مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، غير أنَّ الأثر على البنوك الستَّة التي تمَّت معاقبتها مِن قبل البنك المركزي تبدو أكبر، بصفتها البنوك التي تعمل على مستوى الجمهورية.
التداعيات والسيناريوهات المحتملة:
واستعرضت الورقة البحثية أبرز التداعيات والسيناريوهات المحتملة جراء التصعيد الاقتصادي بين بنكي صنعاء وعدن، مؤكدا أن قرارات البنك المركزي أثارت الكثير مِن الجدل والتوقُّعات حول نتائجها وانعكاساتها، خاصَّة بسبب توقيتها وعدم تراجع البنك أو قبوله التفاوض بشأنها.
وتوقع المركز أن يصدر البنك المركزي قرارًا يقضي بإلغاء التعامل بالأوراق النقدية الصادرة قبل 2016م، بعد انتهاء المهلة المحدَّدة بشهرين، وبالتالي عدم قبول تداولها أو تخزينها مِن قبل المؤسَّسات المالية المختلفة والأفراد.
وأضاف، "بالطبع فإنَّ هذا القرار لا يعني التخلُّص مِن العملة شمالًا، حيث ستبقى مطروحة للتداول استنادًا إلى قوَّة الحوثيين. ومع ذلك يمكن توقُّع اشتداد أزمة السيولة، خاصَّة في حال تشديد الإجراءات على الحوالات الخارجية إلى مناطق سيطرة الحوثيين".
وتابع، "كما أنَّ القرار سوف يدفع المواطنين، وبعض رؤوس الأموال، وحتَّى الصرَّافين والبنوك، للتخلُّص مِن جزء مِن العملة القديمة المخزَّنة لديهم، رغم تعرُّض جزء كبير مِنها للتَّلف، وذلك في إطار التحوُّط المستقبلي والتوجُّه نحو شراء الذهب والعملات الأجنبية والأصول غير النقدية، الأمر الذي قد يزيد مِن حجم السيولة ابتداءً، لكنَّه سيؤثِّر على سعر الصرف".
وأكد المركز البحثي أنه و"رغم فشل قرار الحوثيين في احتواء مشكلة السيولة بسكِّ العملة المعدنية إلَّا أنَّ اشتداد أزمة السيولة قد يدفع الحوثيين لاتِّخاذ إجراءات مماثلة لفئات مختلفة، لا سيَّما وأنَّ سكَّ العملة يحقِّق للحوثيين مصدر دخل إضافي وسهل".
واستدرك، "لكن ليس بيد الحوثيين الكثير مِن الإجراءات لمواجهة شحَّة العملات الصعبة في حال فرض البنك المزيد مِن القرارات فيما يخصُّ الحوالات الخارجية والبنوك. وعلى الرغم من حظر الحوثيين للأوراق النقدية الجديدة باعتبارها غير مغطَّاة وغير قانونية بالنسبة لهم إلَّا أنَّهم حاولوا في أكثر مِن مرَّة تزييف العملة وتهريبها إلى الداخل لمواجهة أزمة السيولة".
قرارات مضادة
أما فيما يخصُّ نقل مراكز البنوك الرئيسة وإدارات عمليَّاتها إلى عدن فقد توقع المركز "أنَّ القرارات المتضادَّة، الصادرة مِن البنك المركزي ومِن سلطات الحوثيين، سوف تقود إلى فصل البنوك بشكل شبه كامل"، مستشهدا بـ"وضع بنك التسليف التعاوني والزراعي (كاك بنك)، والذي صدر قرار بنقل مركزه إلى عدن مطلع عام 2019م، فقد تمَّ فصل البنك، وفرض الحوثيُّون عقوبات سابقة تمنع التعامل مع البنك في عدن، وخدماته المالية، مثل خدمة "كاك حوالة" في عام 2021م، وكذلك كان البنك ضمن البنوك التي أصدر الحوثيُّون قرارًا بوقف التعامل معها".
وأشار إلى رفض بعض الجهات التعامل مع كاك بنك في عدن مثل الصندوق الاجتماعي للتنمية -مقرُّه صنعاء- في برنامج التحويلات النقدية غير المشروطة لعام 2022م، بسبب العقوبات على البنك، والتزام المموِّل "منظَّمة اليونيسيف" بذلك، فقد تقدَّم البنك لمناقصة في كلٍّ مِن صنعاء وعدن، وهما يمثِّلان كيانًا واحدًا، وهذا يخالف إجراءات المناقصات وفقًا لردِّ الصندوق.
واستخلص المركز وفقا لما حصل لكاك بنك ما وصفه بـ"نجاعة الضغوط الحوثية على المنظَّمات والجهات الدولية بعدم التعامل مع البنوك خلال السنوات السابقة، خاصَّة مع وجود مراكز المنظَّمات الرئيسة في صنعاء، وكذلك تضرُّر البنوك نتيجة الانقسام".
وأكد أن الإجراءات الحالية تختلف إلى حدٍّ ما هذه المرَّة باعتبارها صادرة مِن البنك المركزي، والذي يحظى بدعم محلِّي ودولي، ويمثِّل الاعتراف الدولي بقرارات البنك حجر الزاوية في التأثير على مدى نجاح قرارته.
سيناريوهات
واستعرض المركز البحثي أربعة سيناريوهات، الأول، "بقاء الأمور كما هي عليه الآن، أي عدم مقدرة البنوك على نقل مراكزها إلى عدن، الأمر الذي قد يُعرِّضها للعزلة، ولعقوبات أكثر صرامة. وهو سيناريو مستبعد إلَّا في حال كان جزءًا مِن تسوية وتفاهمات مشتركة جديدة".
وأكد "أنَّ أيَّ تفاهمات اقتصادية غالبًا ما تكون مرتبطة بتفاهمات سياسيَّة، أو ضمن التسوية النهائية للنزاع، بحيث يتراجع الحوثيون عن السيطرة بالقوَّة على مؤسَّسات الدولة واستهداف الاقتصاد، والتراجع عن تزوير العملة، وتحصيل الإيرادات لصالحهم. وبكلِّ الأحوال فإنَّ التسوية الشاملة لن تنتج وضعًا مثاليًّا لعودة الدولة ومؤسَّساتها، خاصَّة مع بقاء القوَّة العسكرية بيد الحوثيين، ولكن يمكن أن تُقدِّم نقاط تفاهم مشتركة ومقبولة قائمة على المرجعيَّات".
أمَّا السيناريو الثاني - وفقا للمركز فهو "فصل الإدارات الرئيسة للبنوك وأنظمة الرقابة والمحاسبة، مع وجود احتمالية لبقاء المؤسَّسة بشكل واحد صوريًّا، وسوف يشترط البنك المركزي وصول البيانات حول عمليَّات البنوك المشتركة إلى فروعها في مناطق سيطرة الحوثيين أيضًا".
وقال، إن "مِن شأن هذا السيناريو أن يقود إلى عزلة للبنوك في صنعاء، وأن تحوَّل أنشطتها وفعاليَّاتها مع العالم الخارجي إلى الإدارة الرئيسة أو الإقليمية في عدن، وسوف تتعرَّض البنوك لخسائر ومشاكل فنِّية ومحاسبية وإدارية نتيجة هذه الخطوة".
وأكد أنَّ الخطوة هذه "قد تمثِّل نتيجة واقعية للسياسات المتضادَّة، مع احتمالية تنفيذ الحوثيِّين عقوبات ضدَّ البنوك التي تنفِّذ هذه الخطوة، ولكنَّها في نفس الوقت ستكون عاجزة عن إيجاد بدائل فيما يخصُّ تعامل البنوك مع العالم الخارجي، وبالتالي تحوُّل الجهاز البنكي في مناطق سيطرة الحوثيين إلى نظام شبيه بالنظام البنكي والمصرفي الإيراني المعزول عالميًّا، خاصَّة مع تغيُّر بعض المزاج الدولي في التعامل مع الحوثيين، وقيام الحوثيين مؤخَّرًا بحملة اعتقالات وملاحقة لكوادر المنظَّمات الدولية العاملة مِن صنعاء، حيث مثَّل وجود المنظَّمات الإغاثية والدولية في صنعاء عامل قوَّة للحوثيِّين في مواجهة بعض قرارات الحكومة سابقًا".
أمَّا السيناريو الثالث فيدور حول إمكانيَّة إنشاء غرفة تنسيق محدودة بين البنك المركزي وفرعه في صنعاء فيما يخصُّ إدارة الرقابة على البنوك، مِن أجل تجاوز مشكلة الرقابة على البيانات وعلى تمويلات مكافحة الإرهاب.
واستبعد المركز هذا السيناريو لعدة أسباب، منها، "أنَّ الحوثيِّين جماعة مصنَّفة "جماعة إرهابية"، محلِّيًّا وإقليميًّا، ولا يمكن القبول بوجود ممثِّلين لها في الرقابة على النشاط المصرفي والمالي، وأيضًا لا يمكن الركون لأيِّ تفاهمات مِن هذا الشأن دون وجود تسوية شاملة وحلٍّ للوضع القانوني لفرع صنعاء. ويُمكن أن يقود هذا السيناريو إلى استقالة مجلس إدارة البنك المركزي الحالية".
أمَّا السيناريو الرابع فهو سيناريو نقل مراكز البنوك ومراكز العمليَّات إلى عدن، وهو سيناريو يصطدم بدرجة رئيسة بمواجهة الحوثيِّين للقرار واحتمالية وضع يدهم على أصول البنوك وممتلكاتها، أو التعرُّض لكوادر البنوك وتقييد تحرُّكاتهم، وتحوُّل حالة البنوك إلى حالة شبيهة بحالة "كاك بنك".
واستدرك، "أنَّ الملكية الخاصَّة للبنوك قد تحدث فارقًا في آليَّة التعامل مع الأمر بخلاف "كاك بنك" الحكومي. وسبق للحوثيِّين إغلاق بعض البنوك مؤقَّتًا، والتعدِّي على كوادرها".
أمَّا السيناريو الأخير فيتناول إمكانية استمرار التصعيد في الملفِّ الاقتصادي، خاصَّة في الملفِّ المالي وقطاعي الاتِّصالات وآليَّات الاستيراد، الأمر الذي قد يقود إلى انهيار الهدنة الحالية وعودة التصعيد العسكري. وحتَّى الآن يبدو هذا الخيار مستبعدًا في الأجل القصير، لكنَّه ممكن في الأجل المتوسِّط، وخاصَّة في حال فشلت التفاهمات بين السعودية والحوثيِّين.
وقال المركز، إنه "في ظلِّ تعثُّر إمكانيَّات تحقيق التسوية الشاملة ورفض الحوثيين التراجع عن السيطرة على مؤسَّسات الدولة والتراجع عن الانقلاب على المرجعيَّات القانونية والدستورية ونتائج مؤتمر الحوار فإنَّ التصعيد قادم لا محالة وسوف تستخدم الحكومة جميع الأوراق المتاحة لديها لمواجهة الحوثيين، ومِنها بالطبع الملف الاقتصادي الذي استخدمه الحوثيون كثيرًا لتثبيت الانقلاب وخنق الحكومة ماليًّا".