النائب علي حسين عشال.. من الصورة الشعرية إلى القيمة المتجسّدة
(الأول)خاص.
(نظرة في بيت الشاعر المكعبي)
كتب/ راجح المحوري
في مناسبة زواج كبيرة بمنطقة نائية شرق مديرية مودية، وفي أجواء يملأها الحدث السياسي قبيل إحدى الدورات الانتخابية، كان النائب الأستاذ علي حسين عشال حاضرا، وكانت هذه المنطقة من المناطق التي راهنت على النائب عشال في أكثر من سباق انتخابي، فأثبت بأنه جواد لا يكبو.
كان المجلس ممتلئا، وكان الرجال يحتبون في صفوف تمتد حتى هجير الشمس الذي يضرب الأرض خارج ظل ذلك المجلس رغم طوله، وكانت فقط الأصوات الجهورية تُسمع فالمكان يعج بالهمهمات بين الأشخاص المتجاورين، والأصوات المتداخلة لأصحاب العرس الذين يقومون على خدمة الضيوف. أنا كطفل، كنت منزويا في أحد الأركان أرصد كل شيء بعينين نهمتين على عادة أطفال القرى. كانت ملابس الضيوف المهمين _ أي عشال ورفاقه _ بيضاء ونظيفة، ووجوههم وسيمة وناعمة، كان مظهرهم بسهولة يدلك على الشخصيات المدنية المتحضّرة وسط ذلك السرادق الطويل من الألوان القاتمة، والوجوه المتجهمة القاسية للبدو الذين جاءوا من أماكن بعيدة، كان من بين الحاضرين إلى جانب النائب الوسيم عشال، الشاعر الكبير عبدالله المكعبي الذي ألقى قصيدة عصماء في تمجيد المرشح عشال، وكانت في غاية الجودة.
الغريب أنه رغم طول القصيدة ونبرتها الحماسية وكلماتها القوية الرنانة؛ لم يرسب في ذاكرتي غير هذا البيت الذي سأذكره هنا، ولست أدري هل كانت الصور التي حملها البيت قريبة إلى ذهني فسهل علي حفظ البيت وتذكره دائما ؟ ربما..
يقول المكعبي:
" علي عشال في مودية من خير الشباب
وإن رمى (المروة) مؤكد في (المحاجي) صاب"
حينها عندما سمعت هذا البيت لم أكن أعرف أن الشعر يتجاوز المعاني المباشرة، إلى معاني أعمق غير مباشرة، وأنه يطلق المجازات اللغوية لتحمل أكبر قدر من المعنى في أقل جهد من المبنى، وكنت أعتبرت الموضوع تحصيل حاصل.. فعلي عشال لابد أن يكون راميا ماهرا، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، فالرماية مما يشتمل عليه (الرجل) بالمعنى الكامل لكلمة (رجل) وعشال رجل يملأ السمع والبصر. وكانت هذه الصور الشعرية المباشرة لعشال كرامٍ ماهر ورجل (محاجي) (متارس) كانت كافية لملئ وجداني بالرجل، ولا حاجة بي للبحث عن معان أخرى تتجاوز سطح البيت الشعري، ثم أن الرأي العام السائد عن الأستاذ علي عشال سواء عند أنصاره أو خصومه كان إيجابيا إلى أبعد حد، فالرجل بصدقه وتواضعه وخدمته لأبناء دائرته كان للأمانة قد جعل لاسمه وقعا حسنا في مسامع كل الناس.
المهم أنني أخذت من البيت معناه الظاهر فقط ولم أحتج للأنتقال من مجال الوضوح والتبليغ في البيت، إلى مجال الغموض والشعرية، لأعرف أن الهدف الذي يُشبِهَه الشاعر المكعبي بـ(المروة) هو هدف معنوي، تتعدد صوره وأشكاله ومجالاته، وأن الإصابة هنا هي الرأي السديد وهي الموقف الحكيم وهي الكلمة المستنيرة وهي السلوك السياسي الرشيد، وهذه كلها لا يخطئها علي عشال، فهو:
"إن رمى المروة مؤكد في المحاجي صاب".
يشتهر عن النائب الأستاذ علي حسين عشال أنه لا يعد إلا بما يملك الوفاء به، وقد جرى امتحان وعوده هنا وهناك فبرهنت عن وفاء الرجل وصدقه. وهذا دليل على أن الرجل يحترم اسمه ومكانته، ويعي وزنه جيدا، فهو سياسي من طراز رفيع، وشخصية اجتماعية لها ثقلها، حتى أن الناس كانوا يقولون إذا ترشح عشال لرئاسية الجمهورية فلن يخسر، كما أنه ينتمي إلى أسرة تعد من أبرز وأشهر الأسر في أبين قاطبة، وهي أسرة "آل عشال" التي أخرجت كوكبة كبيرة من القيادات السياسية والعسكرية. خاض علي عشال عددا من المعارك الانتخابية وكسبها، كما كسب رصيدا كبيرا من حب الناس وتقديرهم وثقتهم، ولم ينقص هذا الرصيد الثمين حتى يومنا هذا، وهو أمر نادر الحدوث، خاصة إذا شبهنا علاقة الجمهور بالمرشح بعلاقة العريس الكذوب بفتاة حسناء فقيرة، وهو تشبيه لا ينطوي على أي تجنّي، فهذا العريس عندما يتقدم للفتاة غالبا يعتمد نفس طريقة المرشحين، فيأتي بالكثير من الكذب والكثير من العروض والكثير من الوعود، ولكن... ما أن تتم الموافقة وينال من الفتاة، حتى يتغير كل شيء... فينقلب الإعجاب نفور و الحب إلى كره محض، يغذية التملص المتواصل من الوعود، والتخلي المستمر عن المسؤوليات.
بعد صدور كتابي "إحساس مُحرّم" تعرفت على الأستاذ علي حسين عشال، بسبب الكتاب، فتطابقت الصورة الذهنية المتخيلة عن علي عشال، مع الصورة الواقعية للرجل تمام المطابقة ! وجدته كريما خلوقا متواضعا وأصيلا، فتحول من صورة شعرية تستقر في الذهن، إلى قيمة حقيقية متجسدة في الواقع، وهذا شيء عجيب ومختلف! في زمن السياسية المعاصرة التي يعلم الناس ألاعيبها.
عدن.
١١/ أغسطس / ٢٠٢٤م
*
"المروة" = هي حجر بيضاء ناصعة تتوهج مع سطوع الشمس، وخلال المناسبات توضع في مكان عال من أي جبل قريب، ليتخذها الرجال هدفا يتبارون في تصويب رصاصاتهم إليه.
"المحاجي" = جمع (محجى) أي مترس.
"صاب" = أصاب.