"الدكتوراه الفخرية" وهوس الألقاب.. آفات تغزو أسواق الثقافة
على طريقة "ملك البطيخ"، و"ملك الشاورما" عند الباعة، أغدقت بعض الملتقيات الأدبية الألقاب على مريديها، فمنحتهم شهادات مختومة أصولاً، تثبت أن هذا "شاعر الألق الساحر"، وتلك "شاعرة الليل والبوح".
وذهبت ملتقيات أخرى إلى منح شهادات الدكتوراه الفخرية، في الحضور والإلقاء وسبك القصائد. كما اخترع بعضها رتباً للمنتسبين، قسّمتهم إلى فحولٍ كبار، أو متوسطين، أو يافعين مازالوا في بداية الطريق.
وتجلى مرض الألقاب أكثر، عند كتّاب وشعراء وإعلاميين، سارعوا إلى منح أنفسهم ألقاباً "مبهبطة" على صفحاتهم في السوشيال ميديا، فظهرت تلك الألقاب أكبر من أفعالهم الإبداعية. فيما لم يكترث كتّاب آخرون بالألقاب نهائياً.
وإلى جانب فوضى الألقاب في الملتقيات الأدبية، أُوقِف العديد من الأفراد والمؤسسات في عدة دول عربية، بتهمة منح الدكتوراه الفخرية دون صلاحية في ذلك. كما أُسْقِطَت عن أشخاص بعد إنكار الجامعات الغربية منحها لهم.
وسبق أن كُشفت في لبنان عام 2021، عمليات تزوير 27 ألف شهادة "ماجستير ودكتوراه" حصل عليها مسؤولون وسياسيون. كما سُحِبَت الدكتوراه الفخرية من الفنان محمد رمضان، بعدما أنكرت السفارة الألمانية في القاهرة علاقتها بالجهة المانحة.
ومن طرائف الدكتوراه الفخرية، قيام جامعة "هامبتون" في نيويورك بمنحها لشخصية العرائس "الضفدع كيرمت" المعروف بالضفدع كامل عام 1986، نظراً لفرادته وشعبيته في العالم.
متلازمة "الدكترة"
يصنّف الكاتب أسامة عجاج المهتار، في حديث لـ"إرم نيوز" حمَلة الدكتوراه إلى أربعة أنواع، الأول حصل عليها من جامعة معترف بها عالمياً. والثاني من جامعة غير معترف بها، والثالث من اشترى الدكتوراه من السوق السوداء بما فيها الأطروحة، أما رابع الأنواع فـ"هو من ادّعى الدكتوراه، دون أن يحصل عليها أو يشتريها. ورغم ذلك يقدم نفسه كدكتور في المناسبات، وفي وسائل الإعلام".
ويربط الدكتور هيثم الخواجة، فوضى الألقاب في الوسط الثقافي، بغياب النقد الحقيقي الصادق، ويضيف لـ"إرم نيوز"، "في ظل الاهتمام بالراقصة أكثر من الأديب والمبدع، وفي ظل دخول التعليم في أنفاق الضياع وعدم احترام المعلم، لا بد أن تظهر هذه الفقاعات التي لن يطول عمرها".
أما الشاعر سرجون فايز كرم، فيرى أن لعامل المنافسة دورًا في صناعة الألقاب، ويضيف لـ"إرم نيوز"، أن "العقلية العربية في تركيبتها قائمة على مبدأ المبالغة في اسم الفاعل. ولنا في تاريخ الأدب العربي أمثلة كثيرة على ذلك، مثل أمير الشعراء وشاعر القطرين وغيرهما".
ورغم اعتراف الدكتور هيثم الخواجة، بحالة الفساد الثقافي، لكنه يؤكد أنها فورة ستنتهي مع عودة الثقافة العربية إلى أصالتها الإبداعية، ويضيف "إنها حالة مرضية لن تستمر".
ويحمّل الباحث المهتار، وسائل الإعلام، والمؤسسات الراعية لنشاطات الثقافة، مسؤولية ترويج منح الألقاب دون تدقيق في صحتها، ويضيف، "الصحف تنشر مقالاً للكاتب، دون أن تسأله عن شهادته؛ وعريف الاحتفال يقدِّم فلاناً بأنَّه دكتور، دون أن يتحقَّق؛ والأصدقاء يجارون صديقهم بصفة دكتور، ويعرفون أنه كاذب".
ولا ينسى المهتار اتهام المجتمع الذي بَلَع كذبة أنَّ "من ليس دكتوراً لا اعتبار له"، فحكم على أكثر أعضائه بعدم الاعتبار بمن فيهم "المؤلِّف والصحافي والموسيقار ومعلِّم المدرسة ورجل الأعمال والدبلوماسي والنحَّات".
إنتاج كبير وجودة قليلة
ويبدو المشهد الثقافي بالنسبة للشاعر كرم، يفيض بالإنتاج الأدبي، لكن نسبة الأدب فيه ضئيلة. ويضيف "العالم الثقافي أضحى استهلاكياً، والمنافسة التي تحكمه هي إبراز أسماء معينة بصيغة اسم المبالغة الفارغة".
ويرى سرجون أن الكل يحاولون التميز وإثبات امتلاكهم لحكاية إبداعية مختلفة. وهذا ما يدفعهم للهاث وراء الألقاب.
ويضيف "من المنظور الأكاديمي، لا يمكن الحكم على اللقب، بل على مستوى الإبداع في المنتج الأدبي. ولن نختلف بأن الواقع مريض ينحو إلى اللهاث وراء تقدير الذات".
ونقتفي أثر المغرمين بالألقاب، وندقق صفحاتهم على السوشيال ميديا، فتظهر الألقاب "مبهبطة" مقارنة بالنصوص المكتوبة أو الأعمال الفنية المنجزة.
ويقول الكاتب المهتار "في عالمنا العربي، نعيش سلَّماً معكوساً من القيم، التي جلبت علينا الويلات والهزائم، وجلّ ما نحتاجه هو الصدق والنقد الموضوعي".
تكريم الذات بمنح اللقب
ومن أغرب الظواهر التي تنتشر في الثقافة العربية، إغداق الأفراد بالألقاب على أنفسهم، كأن يسمى كاتب نفسه بـ"الشاعر الكبير فلان" على فيسبوك، أو تختار كاتبة صفة "ملكة الكلمات".
ويصف الدكتور الخواجة أولئك بالهشاشة، ويرى أن مانح اللقب هو المؤسسات والنقاد الذين يقيّمون المنتج الإبداعي، وليس صاحب المنتج.
ويؤكد المهتار ضرورة إطلاق عملية نقدية واسعة للواقع الثقافي العربي، ويتهم وسائل الإعلام بالتهاون في مكافحة هذه الظاهرة. ويقول، إن "مجرد تسمية الكاتب نفسه بألقاب فضفاضة، يعد إدانة له".
ومن مفارقات بعض الملتقيات الأدبية، تسمية نفسها بلقب "العالمية"، وهي مغرقة في المحلية. وتقديم أخرى لشهادات تقدير للكتاب، نظراً" لإثرائهم الأدبي وتميزهم الفكري" رغم تجاربهم محدودة.
كما أصدرت بعض الملتقيات بيانات تشبه برامج عمل نقابات العمال، وبعضها كان مسؤولوها شعراء لا يملكون بصمة في المشهد الشعري، وملتقيات أخرى مسؤولوها تقليديون أسّسوا الملتقى لتطوير النص ومواكبة الحداثة