حتى لا يلعننا التاريخ
للرداءة مقاييسها، وعندما تسود تستهدف العقول والأفكار بهجوم شرس من قبل المتبجحين بفحش الكلام، في أردأ الأحوال يتوجه المفلسون لمحاربة الأفكار النيرة، بشخصنة القضايا، والبحث في قمامات الماضي، عما يشوش الحاضر ليتوه الناس عن المستقبل، بإغراقهم في الماضي ومآسيه وعلله، يقدسونه كحائط مبكى.
في اقصى حالات التعبئة والتحريض، يسمح للجاهل أن يتطاول على الكبار، ويترك للمتعصب مجال ليناقر كل ما هو وسطي وعقلاني، والنتيجة من سيئٍ إلى أسوأ ومزيدٍ من البذاءة والرداءة.
العقلانية تتخذ من الوسطية منهجًا، يتفق فيه العقل والمنطق على ثوابت يجب الدفاع عنها بعيدًا عن المماحكات السياسية والأمراض الحزبية والتعبئة العسكرية، والمناطقية والطائفية، والحروب العبثية، وما تفرزه تلك النعرات والحروب من كراهية وعنصرية، فالاتفاق على ثوابت إنسانية لا تقبل الجدل والاحتمالات كفيلة بحماية الحقوق "أرضًا وإنسانًا".
عندما يغرق المجتمع في وحل من القضايا الجنائية، يتصدر المشهد أبطالها كضحايا لمرحلة مليئة بالتحشيد والتنكيد والرفض والتأييد، والسخط، والاستمتاع بدور الضحية، التي تتحول لعملة للمتاجرة بالقضية، في ظاهرة عبثية بامتياز.
أي انتهاكات تخلف ضحايا أبرياء، وهي أشبه ما تكون باختبار عسير لأي مجتمع منقسم، هل سينجح بمناصرتها بعيدًا عن حالات التشظي، والتحريض الرث الذي يبدع في انتاجها وممارساتها بما هو اسوأ، كما يحلو للبعض في الاستمتاع للتعامل مع القضايا وفقاً لما فيه من تشظي عقلي وفكري، ووفقاً لانقساماته السياسية، وتكييفها كحالة معادية.
الثوابت الوطنية والإنسانية تستدعي تقديسها لا تقييمها، والمؤسف أن من يصنع له ثوابت خاصة تختلف كلياً عن الثوابت الوطنية والإنسانية التي تقرها المواثيق والدساتير، ويستخدمها كورقة ضغط على الإخوة الأعداء ومطاردتهم بها، حيث يعتلي منصته المثخنة بالرداءة ساخرًا ساخطًا على كل من حوله، بغباء لا مثيل له، متبجحًا بفحش الخطاب وبذاءة المفردات، غير آبه بما يصنعه.
هكذا تضيع القضايا وتضيع معها حقوق وواجبات ومسئوليات وأمانات وتهدر دماء وتزهق أرواح، بل وتنتهك حرمات ومقدسات وووو إلخ.
وبكذا تموت الضمائر وتنهار القيم وتسقط المجتمعات أخلاقيًا لتسقط بعد ذلك مادياً وحضاريًا، حينها يلعنها التاريخ.