الصحافة الساخرة وضياع القيم!!

الصحافة الساخرة وضياع القيم!!

(الأول) متابعة خاصة:

كما ابتُليت الفضائيات بعدوى "المسجات"، الصالحة منها والطالحة، وللأسف هنالك "مسجات" على الشاشة يخجل المرء من قراءتها بحضور بناته وأولاده، وكأن القيم العربية قد تهاوت، وأن وقت المراهقين والمراهقات و"فلوسهم" أيضاً، رحب وطويل بحيث يتفننون في كتابة تلك المسجات بصورة تعبّر عن اختلال في الشخصية، وفراغ نفسي واجتماعي خطير، تفسره أشكال الكلمات و"الإملاء" الخطأ والمعاني الفاسدة التي تحفل بها تلك المسجات. قد يحتاج المرء إلى دراسة تحليلية لتلك الظاهرة من قبل المختصين.
نقول كما ابتـُليت الفضائيات بتلك العدوى، ابتـُليت الصحافة أيضاً بما يسمونه الصحافة الساخرة، جرياً على اتجاهات الأدب الساخر!
ولدى استعراضي لملحق لهذا النوع من الأدب، أو الاتجاه الصحفي، رغم عدم اعترافي به كظاهرة إيجابية في المحفل الصحافي، وجدت عجباً، وألماً، وانتابتني حالات استياء من بعض الأقلام التي تروّج هذا النوع من "الجنون" أو "الجنوح" الصحافي الذي يتنافى مع روح الصحافة وأهدافها، ويتعارض مع جهود المربين في المدارس والجامعات، الذين يحرصون على حماية اللغة العربية السليمة، ويعلّمون الأطفال والشباب قواعد النحو والصرف، وأساليب الكتابة الناجحة كوحدة الموضوع، ودقة المعاني، والبديع والبيان، وغير ذلك من التعاليم التي تحفظ لهم اللسان بعيداً عن اللحن، وحوشي الكلام.
وددتُ أن أشارك القارئ الكريم في بعض ما قرأت، فمن المسجات الثقيلة والتي تحمل كلمات لا تتناسب والمقام -حيث نقول في الأدب العربي: لكل مقام مقال. من هذه المسجات التي نـُشرت في أحد الملاحق الساخرة مثل: نونو الحلوة أرسلت مسجاً يقول: "أمنيتي أن تصاب بفشل كلوي، حتى أثبت لك حبي وأتبرع لك بكليتي". أو "أحبك" أو "بوسة على خدك" أو "تفداك عيوني" أو "ثور ينطحك إذا نسيتني".
هذه النوعية وغيرها من "المسجات" المطبوعة تعوّد الشاب والشابة على تداول كلمات لا تناسب المقام. وإذا ما استشرت هذه الظاهرة، فإن هنالك خطراً على قدرة شبابنا على الكتابة بشكل صحيح، والتعود على الكلمات ذات المعاني الراقية، خصوصاً ونحن نشاهد أن كثيراً من طلاب الثانوية لا يعرفون كتابة طلب توظيف من سطرين!.
من المفاهيم الخطيرة التي يتم تداولها في الصحافة الساخرة موضوع "المرأة". فنحن نعيش عصر التحولات والمطالبات بحقوق المرأة المدنية والسياسية. وأن المرأة نصف المجتمع، وهي صانعة الرجال، وغيرها من الكلمات الرنانة التي تتغنى بالمرأة وبقدرتها وحيوية دورها في المجتمع. وكما فعلت الأفلام العربية بالمرأة، حيث نمّطت حياتها، وجعلتها أقرب إلى ضحية "سخرة" الرجل، ودوماً تريده لتستند عليه، وأن تصرفاتها "الغبية" دوماً تفسد خطط الرجل ذي العقل الراجح، أو أنها الراقصة أو الزوجة الرابعة، أو المخدوعة، نجد في ما يسمونه الصحافة الساخرة أنماطاً تحاكي تلك الصور وتؤكدها، ومما قرأته في هذا المجال: تسعة أعشار المرأة دهاء، وعُشرها فتنة، ثلاثة أشياء لا تتفق مع المرأة: الأعزب، السر، الصمت. ثلاثة أشياء لا تهدأ أبداً: الماء، الهواء، النساء. هذه النماذج المكتوبة، لا أعتقد أنها تشكل فناً تعبيرياً جيداً كونها تخالف الواقع وتتجنى عليه. فاتهام المرأة بإفشاء السر والثرثرة ليس قاعدة، وهو اتهام يناقضه العديد من الأدبيات. كما أن التندر بهذه الصورة يحط من قدر المرأة، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومات ومؤسسات المجتمع إلى تأكيد هذه الصورة الحضارية للمرأة وحماية حقوقها، ودعم دورها في الحياة العصرية.
من الأشياء النفيسة التي يحاول المربون في المدارس حفظها من الضياع هي اللغة العربية! وإذا كنا قد ابتلينا في الإذاعة والتلفزيون باللهجة المحلية، التي شوهت اللغة، ولم تسهم في التواصل الفضائي بين أطراف العالم العربي، والدليل على هذا: مَن مِن المشاهدين في الخليج يشاهدون الفضائية الليبية أو التونسية أو الموريتانية؟
إذا كنا قد ابتلينا في برامج الحديث "Talk Show" أو المسابقات أو حتى التقارير والنشرات الإخبارية باللهجة الدارجة التي لا تصلح إلا للجمهور المحلي، وهي بذاتها خطر على اللغة الأم التي نـُدرسّها لأبنائنا في المدارس والجامعات، فإن البلاء أكبر عندما يعتمد بعض كتّابنا اللهجة المحلية في الصحافة!
نقرأ في هذا الخصوص ما يلي:"لحد هنا كويس"، "يا دي الهبل من أي كوكب جاءت الست دي"، "المثقفون داسوا بالجزمة على عرض الأمة وشرفها"، "باردون، أنا مش متجوز، أنا لي صديق بس يعجبك، شاب في غاية الرجولة".
لا أدري كيف نفسّر هذا الجنوح في اللغة وفي المعاني! فلا الكلمات صالحة للنشر، ولا الألفاظ الدلالية أو المعاني جديرة بتداولها ونشرها بين الناس. فكيف نحفظ الشاب من التلفظ بألفاظ مثل "الجزمة"، "أنا لي صديق شاب"، ونحن ننشر له هكذا قيماً. هل الهدف هو محاولة تجنب حصول ذلك من الشاب؟ أنا موقن بأن العكس هو الذي يحصل. فالعصر الحالي، عصر ضياع الهوية، وعصر الفراغ النفسي والعضوي لدى الشاب، وعصر الموضة. وفي عصر كهذا تسقط قيم الاجتناب أو المحظ