قراءة أولى في مذكرات بوريس جونسون وإنجيلا ميركل

مسعود عمشوش

تعدُّ كتابة المذكرات أحد أهم أشكال كتابة الذات. وتتميّز المذكرات عن السيرة الذاتية بعدم تركيز مؤلفها على سرد تفاصيل حياته الشخصية، التكوينية والعائلية. وبدلا من ذلك يركز المؤلف على مشاركته ودوره المهم في الحياة العامة وعلاقاته مع الآخرين ومنذ بداية ثمانينيات القرن العشرين. والمذكرات مثل السيرة الذاتية جنس قديم مارس كتابته منذ القدم عددٌ من العرب والأجانب. ولا شك أن الانفتاح الذي شهدته معظم أقطار العالم منذ القرن الثامن عشر قد شجع عددا من السياسيين على تدوين تجاربهم الذاتية وصوغها في أشكال تعبيرية تقع في معظمها ضمن دائرة المذكرات التي أضحت جزءاً من المشهد السياسي في العالم كله، إذ لا يكاد يمر أسبوع أو شهر من دون أن تصدر مذكرات شخصية لهذا الرئيس أو ذلك الزعيم السياسي أو تلك الشخصية "الاعتبارية". ولا ريب في أن التعددية السياسية قد دفعت بعض محترفي السياسة أو عشاقها إلى الإدلاء بدلوهم أو شهادتهم إسهاما منهم في كتابة التاريخ الصاخب للقرن العشرين ومطلع هذه الألفية، وذلك بهدف تذكير القراء بمكانتهم وأهمية رصيدهم السياسي أو النضالي، ولأنهم يرون أن تجاربهم في الحياة يمكن أن تقدم فائدةً ما للقارئ. وقد حظيت مذكرات نهرو وانديرا غاندي وهتلر وباراك أوباما بنجاح كبير وترجمت إلى عدد كبير من لغات العالم. (انظر كتابي: أشكال كتابة الذات في حضرموت: السيرة الذاتية والمذكرات واليوميات)

وفي نهاية منتصف هذا الشهر (نوفمبر 2024) صدر كتاب مهم يتضمن مذكرات رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون (مطلق العنان Unchained)، وسيصدر يوم الثلاثاء القادم كتاب آخر يحتوي على مذكرات رئيسة ألمانيا السابقة أنجيلا ميركل (الحرية). وفي الصفحات الآتية سنقدم قراءة للمقتطفات الطويلة التي سبق أن نشرت من هذين الكتابين في عدد من الصحف الغربية.

أولا- بوريس جونسون سليطُ السان:

يوظف بوريس جونسون، زعيم حزب المحافظين البريطاني السابق، مذكراته (مطلق العنان Unchained)، التي ظهرت في 29 لغة في الوقت نفسه، لتصفية جملة من الحسابات مع خصومه السياسيين. ويروي فيها تجربته في السياسة، بما في ذلك الفترة التي قضاها في داونينغ ستريت من 2019 إلى 2022، والتي تميزت بالمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبجائحة Covid-19.

ومن المعلوم أن هذا السياسي البريطاني، الذي جعل من شعره الأشعث علامته التجارية، ومن أسلوبه الغريب وغير المعتاد قوة سياسية، كان في البداية صحفيًا مغرما بتشرشل، وعمل لفترة مراسلًا للصحافة البريطانية في بروكسل. لكنه أصبح معروفًا بصفته عمدة لندن. وكان يعشق السفر بالدراجة مثل أي شخص آخر، ويعتني بملابسه الرثّة. 

وتحت ستار مستر بين، رسم جونسون مساره ليس بحذقه السياسي فقط، لكن كذلك بلسانه وقلمه مطلق العنان كالجرافة. والحقيقة أن مذكراته، على الرغم من تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة والوقاحة، فإنها أقرب إلى موجة جارفة من التبرير الساخر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة. فجونسون قد اختار، في مذكراته التي تقع في أكثر من 700 صفحة مليئة بالحكايات الخيالية، أن ينتقد ويلوم الجميع لهذا السبب أو ذاك.

وهو ينتقد على وجه الخصوص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لموقفه في القضية الشائكة للمهاجرين الذين كانوا يعبرون القناة بشكل غير قانوني للوصول إلى المملكة المتحدة من فرنسا، وهو موضوع حساس للغاية بالنسبة للجانب البريطاني. وقد كتب بوريس جونسون: "بدا لي على الأقل أن ماكرون قد زاد من حجم المشكلة.. وسمح بهدوء لعدد كبير بما فيه الكفاية من المهاجرين بعبور القناة لدفع الشعب البريطاني إلى الجنون، وتقويض واحدة من أهم قضايا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي استعادة السيطرة على حدودنا".

وفي المذكرات يروي جونسون فترة إصابته بـ Covid في ربيع سنة 2020 وخوفه من الموت عندما أمضى عدة أيام في العناية المركزة، وكتب: "لم أكن أرغب في النوم، وكنت أخشى من حالة عدم استيقاظي أبدا". وفي فقرة تليق بكتاب هزلي يروي رئيس الوزراء السابق - المشاغب جونسون- كيف كان يفكر في إصدار توجيه بالقيام بغارة عسكرية على مستودع في هولندا لاستعادة الملايين من لقاحات AstraZeneca.

ويروي جونسون في مذكراته زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في سنة 2017، وكيف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي طلب خلال الزيارة استخدام المرحاض، وكيف أن أجهزة الأمن عثرت بعد ذلك على جهاز تنصت قد تمّ زرعه هناك. وقال جونسون إنه كان على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا من ذلك استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!

ومن خلال المقتطفات الطويلة التي نشرت منذ شهور من (مطلق العنان) يبدو لنا أن المذكرات قد سُرِدت بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي وليس بلغة خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد. فهي تتضمن كثيرا من علامات التعجب والكلمات الدارجة المكتوبة بحروف كبيرة، والشتائم والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة والتي تغلب عليها السخريّة والهزل، حتى حينما يتناول المؤلف قضايا يفترض أن يكون جادا بشأنها.

ويبدو أن هذا النّفس الساخر الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته، التي من المتوقع أن ترفده بـأكثر من ثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر، سيفقد الكتاب كثيراً من قيمته كوثيقة تاريخيّة تتناول الشأن العام.

ثانيا- مذكرات ميركل: (الحرية: ذكريات 1954-2021)

تستعد أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية السابقة، التي تقاعدت سنة 2021، بعد أن ظلت ستة عشر عاما على رأس أكبر اقتصاد في أوروبا، وفي ظل حملة تشكيك في إرثها السياسي، لإصدار مذكراتها، (الحرية: ذكريات 1954-2021)، وذلك في أكثر من 30 لغة، يوم الثلاثاء القادم 26 نوفمبر.

من خلال مقتطفات الكتاب التي نشرتها صحيفة (دي تسايت) يتبيّن لنا أن إنجيلا ميركل تركز في مذكراتها على الحديث عن علاقاتها خلال ستة عشر عاما في السلطة، مع عدد من زعماء العالم، لاسيما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ويعد خليفة أوباما، رونالد ترامب، الذي فاز بولاية جديدة في وقت سابق من هذا الشهر، أحد الرجال الذين استهدفتهم أول زعيمة في ألمانيا في كتابها. وتقول إنها يوما ما طلبت المشورة من البابا حول كيفية التعامل مع ترامب عندما تمّ انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة لأول مرة، وإيجاد طريقة لإقناعه بعدم الانسحاب من اتفاقيات باريس للمناخ. وكتبت أن ترامب "يرى كل شيء من وجهة نظر تجار العقارات، وأن كل قطعة أرض لا يمكن بيعها إلا مرة واحدة، وإذا لم يحصل عليها هو حصل عليها شخص آخر. هكذا رأى العالم".

وكتبت أن البابا فرانسيس وقال لها "انحنوا، انحنوا، انحنوا، لكن تأكدوا من عدم كسره". وخلال رئاسة ترامب، أدت استحضارات ميركل المتكررة لقيم مثل الحرية وحقوق الإنسان إلى وصف البعض لها بأنها الزعيمة الحقيقية للعالم الحر، وهو لقب مخصص تقليديا لرؤساء الولايات المتحدة. فقد قال عنها تورستن أوبيلاند، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جينا: "لقد كانت ميركل شخصًا نزيهًا وخاليًا من الغرور، وهو أمر غير معتاد بالنسبة للسياسيين".

وفي المقتطفات من الكتاب التي نشرتها صحيفة (دي تسايت) تبرر ميركل معارضتها انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بما تم الاتفاق عليه في قمة الحلف في بوخارست في 2008. فهي ترى أن وجود أسطول روسي في البحر الأسود قبالة شبه جزيرة القرم الأوكرانية كان ينذر بالخطر، لافتة إلى أن "أياً من البلدان المرشحة للانضمام إلى الناتو لم تشهد حتى الآن تهديدا من هذا القبيل من قبل أجهزة عسكرية روسية". وأقرت "وكان من الواهي الاعتقاد في ظني أن الترشح لعضوية (الحلف) كان سيحمي أوكرانيا (وجورجيا أيضاً) من عدوان بوتين". وفي نهاية القمة تم التوصل إلى تسوية "كان لها ثمن". وأكدت ميركل أن "عدم حصول جورجيا وأوكرانيا على تعهد بجعلهما من المرشحين إلى عضوية (الحلف) كان بمثابة جواب بالنفي على آمالهما. أما قيام (الناتو) بالتلميح عموماً إلى إمكانية الالتحاق به، فقد كان – رأيها بمثابة جواب بالإيجاب على الانضمام، وبالنسبة إلى بوتين إعلان حرب.

وتذكر ميركل أنها خلال فترات ولايتها الأربع المتتالية، التي شهدت أوروبا فيها الأزمة المالية العالمية، وأزمة ديون منطقة اليورو، وجائحة فيروس كوفيد-19، قد قادت ألمانيا بنجاح، وواجهت منذ ذلك الحين انتقادات لأنها سمحت لألمانيا بالاعتماد بشكل متزايد على الغاز الروسي الرخيص والتجارة الصينية، حتى بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم قسراً وتحذيرات الصناعة من الاعتماد المفرط على الصين. وتذكر أن منتقديها يفسرون صعود اليمين المتطرف وارتفاع تكاليف الطاقة جزئيًا إلى قراراتها بفتح حدود ألمانيا أمام اللاجئين والتخلص التدريجي من الطاقة النووية. 

وأخيرا علينا أن نشير أنّ المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل التي كانت قبل ذلك الزعيمة الديمقراطية المسيحية، لم تحصر مذكراتها (حرية 2005 -2021) في الحديث عن مسيرتها السياسية فقط، فهي كرست صفحات طويلة منها لسرد نتفات من حياتها الشخصية في ألمانيا الشرقية، واستذكرت بشكل خاص سنوات شبابها في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وبشكل خاص في استوديوهات التلفزيون.