الأسواق الشعبية في الإحساء ووادي حضرموت: تاريخ تجاري عريق وحاضر سياحي واعد. ١- سوق القيصرية
مسعود عمشوش
تتميز معظم المدن الشرقية باحتوائها على أسواق كبيرة (bazzare)، ترتبط بنشأة تلك المدن. وفي الأساس كانت الأسواق عبارة عن أماكن للتبادل التجاري بين السكان، وفي الغالب بين الحضر والبدو الذين كانوا يتولون نقل البضائع من منطقة إلى أخرى على ظهور جمالهم. وكانت تلك الأسواق، عند نشأتها ذات طابع عام وهو ما يجعلها ذات صبغة شعبية.
وكانت الأسواق الشعبية تقام في مواقع محددة ومعروفة، في الغالب حول قصر الحاكم أو الجامع الكبير. وفي الحقيقة هناك نوعان من الأسواق الشعبية؛ نوع ثابت يظل قائما في مكانه المحدد، ونوع موسمي أو متنقل أو مؤقت لا ينظم إلا يوما واحدا في الأسبوع أو مرة واحدة في السنة و مناسبة معينة، زراعية أو دينية.
وعادة ما تكون الأسواق الشعبية فرصة للقاء بين السكان المحليين والتجار القادمين من مناطق بعيدة. ومن المعروف أن أشهر الأسواق في الجزيرة العربية كان سوق عكاظ بالقرب من الطائف الذي تجاوز الصبغة التجارية وأصبح مناسبة ثقافية وأدبية يلتقي فيها كبار الشعراء العرب.
والأسواق الشعبية العربية كانت تقام عادة في الهواء الطلق، وقليل منها كان يتم سقفه، لاسيما منذ بداية تمدد الدولة العثمانية الذي تأثرت خلاله معظم الأسواق الشعبية العربية بالنمط التركي المسقوف الموجود في سوق الحميدية في دمشق أو القيصرية في الأحساء بالسعودية أو سوق الحنضل بسيؤن، حاضرة وادي حضرموت. وفي السطور الآتية سنسلط قليلا من الضوء على هذين السوقين الشعبيين اللذين أصبحا قبلة المتسوقين من سكان المدينتين، وكذلك وجهة الزائرين والسياح والرحالة من مختلف أصقاع العالم، ويبرزان التحولات المهمة التي طرأت على عادات التسوق، والوظائف الجديدة للأسواق الشعبية في معظم مدن الشرق.
أولا- سوق القيصرية في الهفوف:
تكتسب الأسواق الشعبية في الأحساء بالمملكة العربية السعودية أهمية كبيرة بالنسبة للسكان المحليين وللزائرين. وأبرز تلك الأسواق اليوم سوق القيصرية الذي يقع في حي الرفعة بمدينة الهفوف. وتعود نشأته إلى مطلع القرن التاسع عشر (1822)، وقد أشار إليه عدد من الرحالة الغربيين الذين زاروا المنطقة في النصف الثاني من ذلك القرن، مثل وليام بيفورد بيلجراف. ويذكر المؤرخون إن السوق شهد في عهد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، تجديدًا مهما لعمارته، وذلك بين سنتي 1916م و١٩٢٣.
وفي نهاية سنة ١٩١٧ قدم عبد الله فيلبي وصفا لسوق الخميس الذي كان يقام في الجزء الشرقي من سوق القيصرية، ووصفه كذلك الرحالة تشيزمان سنة ١٩٢٣. وفي سنة ١٩٥١ زاره عالم الانثروبولوجيا الأمريكي فريدريكو فيدال، وقال إنه عبارة عن " شبكة معقدة من الممرات المقنطرة الطويلة والضيقة، تقع على جانبيها الدكاكين المتلاصقة الواحد جنب الآخر. وقد بنيت القيصرية في بداية عشرينات القرن الميلادي الحالي، وتقع في مواجهة سور الكوت [القلعة او القصر]، بين المستشفى والحميدية. وتصنف الدكاكين في القيصرية حسب تخصصها، فأماكن السلع الجافة تقع على طول الواجهة، تليها دكاكين الملابس في طريقين موازيين للواجهة، وتقع محلات بيع العباءات في النهاية الجنوبية، والسجاد والفرش على طول الجانبين الشمالي والشرقي، وتقع دكاكين الأواني المعدنية القديمة في الوسط.. إلخ".
وتعد القيصرية هي السوق الرئيس في مدينة الهفوف، وتبلغ مساحتها حوالي ١٥٠٠٠ مترا مربعا، بما في ذلك المستودعات. ويضم السوق ٤٢٠ محلا تجاريا، وتشكل المحلات التابعة للبلدية ۱۷۱ حانوتا (٤٧% من عدد الحوانيت)، والباقي يعود لملكيات خاصة والأوقاف، وعددها ٢٤٩ حانوتا، وتنقسم إلى قسمين: أحدهما يمتد بين شارعي الخباز والحدادين، والآخر بين شارع الحدادين وسوق الحريم أو البدو.
وتتخلل صفوف المحلات التجارية ممرات ضيقة مسقوفة. وليس للقيصرية مدخل محدد، إلا أن هناك عقود نصف دائرية في الواجهة أعلى من العقود المجاورة لتأكيد الممرات الجانبية. وتقود ممرات القيصرية الخلفية إلى مستودعات والحارات السكنية، وأحيانا تشكل بعض الممرات نهايات مغلقة لها عدد من المحلات. وفي مطلع القرن العشرين بنيت القيصرية بالحجر الجيري والطين الحوائط حاملة تبلغ سماكتها ٦٠ سم والسقف محمول مباشرة على الحوائط الحاملة ومكونه من أعمدة من جذوع النخل أو خشب شجر الكندل فرشت عليها حصر. وفي سنة ٢٠٠١ تعرض السوق لحريق هائل وتمت إعادة بنائه بالأحجار على النحو الراهن.
مثل مختلف مناطق الجزيرة العربية شهدت الأحساء نموا اقتصاديًا كبيرًا، وتغيرا كبيرا في عادات التسوق، حيث انتشرت مراكز التسوق الحديثة أو ما يعرف بـ"المولات" التي تجمع بين التسوق والترفيه، وانتشر كذلك التسوق الإلكتروني. ونافست العادات التسويقية الجديدة الأسواق الشعبية، وقلصت كثيرا وظيفتها التجارية. واليوم، مثل غيره من الأسواق الشعبية في المدن الشرقية، شهد سوق القيصرية تحولًا كبيرا في وظائفه؛ فبعد أن كان يحتل المركز الأول للتبادل التجاري في المدينة أصبح اليوم، في المقام الأول، مكانا للتبادل الثقافي والاجتماعي وموقع جذب سياحي يأتي إليه الزوار المحليون والأجانب، للتعرف على عادات المنطقة وشراء الهدايا التذكارية وبعض السلع النادرة كمنتجات الخوص والحناء والعسل والبخور. ويحتوي السوق على متحف متواضع لتلك المنتجات، ولا يزال يحتفظ بعبق التاريخ والموروث الشعبي، ولا يزال كثير من الناس يأتون إليه لشراء المنتجات التقليدية المصنوعة من النحاس والخوص والخزف والقماش والجلد، وكذلك بعض المنتوجات الزراعية لا سيما التمر والتوابل والحنا، والمصوغات والبخور والعطور بأنواعها. كما انتشرت في السوق المحلات المتخصصة في بيع التحف والهدايا التذكارية للزوار والسياح.