الحكاية والحزاية وتوثيقهما في الأحساء وحضرموت ٢/٢ ( الحزايا الحضرمية)

ثانيا-الحزايا الحضرمية:

مسعود عمشوش

حضرموت غنية بتراثها الأدبي، شعراً ونثراً. ومن بين فنون النثر السردي الواقعي التي اشتهرت في حضرموت أدب السيرة والسيرة الذاتية وأدب الرحلة. ومن بين فنون النثر السردي الخيالي التي مارس الحضارم كتابتها: المقامات والروايات والقصة القصيرة. ويزخر الموروث السردي الحضرمي كذلك بأنواع مختلفة من الحكايات، ومنها الحزايا التي قدمناها في الجزء الأول من هذه المقالة.

وعلى الرغم من أن الحضارم لم يهتموا بالحكايات الشعبية بقدر اهتمامهم بالأمثال الشعبية، يمكننا اليوم الوصول إلى مدونة لا بأس بها من الحكايات الشعبية الحضرمية، مبعثرة في عدد من الملازم والدراسات والكتب وذاكرة كثير من المسنين والمسنات فمنذ مطلع هذا القرن قام أحمد عمر مسجدي بتضمين كتابه (من الأدب الشعبي للطفل) بضع حزايا جمعها في مدينة الشحر بساحل حضرموت. 

وضمّن الباحث مسعود علي الغتنيني الدراسة التي نشرها في مجلة (حضرموت الثقافية، العدد 15) بعنوان (المحازي في الأدب الشعبي المشقاصي)، أربعة نماذج اعتمد في صياغتها لهجة المشقاص بساحل شرق حضرموت. وفي سنة 2006 قامت إدارة مدرسة فاطمة الزهراء للبنات بتاربة في وادي حضرموت بنشر مجموعة (حزايا الدار)، التي تضم ثلاث عشرة حزاية قامت بجمعها تلميذات المدرسة، بإشراف المدرسة نجلاء صالح العامري.

وقبل ذلك، قام أحمد بن محمد الحبشي بتضمين ملزمته (الكشكول) عددا كبيرا من الحكايات والأمثال الحضرمية. كما قام حسين بامحيمود بجمع عدد كبير من القصص والطرائف من عدد من الكتب الحضرمية، ووزع بعض النسخ الورقية منها بعنوان (قصص وطرائف حضرمية). وقبل ثلاث سنوات نشرت كتابا بعنوان (الحزايا الحضرمية) ضمنته ستة عشر نموذجا من الحزايا الحضرمية.

وفي هذه المقالة، اخترت أن أقدم للقارئ بعض الخصائص الموضوعية والفنية للحزايا الحضرمية، وذلك من خلال قراءة تحليلية للستة عشر نموذجا التي ضمنتها كتابي المذكور أعلاه. ومن أبرز الموضوعات التي تناولتها الحزايا الحضرمية: صراع الأطفال مع زوجة أبيهم (الخالة)، والصراع بين الزوجة والحماة أو أخت زوجها، وتجاوز الحواجز الاجتماعية، ووفاء الزوجة وخيانتها.

فمن أبرز الموضوعات التي تتناولها الحزايا الحضرمية موضوع الخالة السيئة. ومن اللافت أن معظم بطلات تلك الحزايا الحضرمية (اللاتي يوازين ساندريلا) يحملن اسم فاطمة، وهو اسم منتشر كذلك في التراث السردي الشعبي السوداني. أما في المملكة العربية السعودية فتنتشر صيغة مشهورة لاسم ضحية الخالة السيئة، وهو: (القطية). وفي قطر تحمل الحكاية التي تعادل حكاية سندريلا عنوان (حمدة وفسيكرة). وفيها تدور أحداث الحزاية عند شاطئ البحر، حيث تأتي فسيكرة، السمكة السحرية، وتنقذ حمدة، البطلة ضحية الخالة.

من أبرز القضايا التي تتناولها الحزايا والحكايات الشعبية ظاهرة الصدام بين الحماة أم الزوج والكتة ( زوجة الابن). ويدخل هذا الصدام في إطار الغيرة التي تبرز عادة بين النساء اللاتي يفضلن الاستحواذ والاستفراد بقلب الرجل وماله. ويبين لنا هذا الصدام أن الغيرة الرغبة في الاستفراد والاستحواذ لا تنحصر في الصراع بين زوجتين ( ضرتين) على حب رجل واحد، بل يمكن أن تنشأ بين الزوجة، التي قرر الرجل أن يقضي حياته معها وأمه التي ربته وباتت تشعر أن زوجته أصبحت تستحوذ على قلب ابنها وماله. ويتفهم علماء النفس منطلقات هذا الصراع .

ومن الموضوعات المهيمنة في الحزايا الحضرمية الصراع بين الحماة والكنة، الذي يعد ظاهرة منتشرة بكثرة في المجتمعات الريفية التي تسعى إلى الحفاظ على لم شمل الأسرة، ويظل الابن يعيش بعد زواجه مع بقية أفراد أسرته، وتحديدا أمه في بيت العائلة. فحزاية (مولى الحسارة التي ضمتاها هذا الكتاب، مثلا ، تسرد قصة رجل تزوج في بيت العائلة، وتعيش معه في البيت أمه وأخته المطلقة وكانت زوجته "شيطانية تكره أمه وأخته، وما تحبهن أبداً. وكل يوم وهن في مشاكل، ولا بدا يوم رجع الرجل من شغله ولا حصل مرته تبكي وتشكي من أمه وأخته. فاضطر الزوج أن يطلب المساعدة من صديق له أعطاه طريقة اكتشف بها من هي الصادقة والمحبة له. فعندما جاء مولى الحسارة) الذي يعتقدن أنه الخضر، قالت له الأم: "يا مولى الحسارة، عسى الله يصلح ولدي ويهديه إلى كل خير". وقالت الأخت: "ربي يحفظ لي خوي فوقي وفوق أمي، ويزيدني فوق الفيان فيان من الرز". أما الزوجة فقد قالت: "يعل ( لعل ) ريّالي يسرح رِيِل تمتد ولعاد ترتد، وأني وعيالي نتمي (نبقى) وحدنا في الدار".

ومثل الحزايا الحساوية، تتضمن الحزايا الحضرمية بعض العناصر الخارقة، كالتزاوج مع الجن أو التحول من إنسان إلى حيوان. ففي حزاية (محمد وفاطمة) يتحول محمد إلى كبش لأنه شرب من مياه الأغنام. وفي حزاية (فاطمة في الشعوب هايمة) وحزاية (سيدي يقرأ على الضانة) هناك تداخل بين عالم البشر وعالم الجن؛ ففيها تعيش البطلة التي تنشق لها الحصاة بين الدجاج والثعابين والحيوانات المفترسة التي يتضح أنها من الجن. 

وبالنسبة للسمات اللغوية والبنيوية للحزايا الحضرمية، فقد لاحظنا تفاوتا كبيرا في اللغة التي اعتمدت في صياغة كل حزاية وتوثيقها. فحتى داخل المجموعة الواحدة هناك اختلاف في الصياغة اللغوية. مثلا، بين الحزايا التي تضمنتها مجموعة (حزايا الدار)، التي قامت بجمعها تلميذات مدرسة فاطمة الزهراء للتعليم الأساسي في تاربة، هناك نصوص مثل (فاطمة وكعدة، وسمع سمع يا مخزن القصبي، وخطر أبو مطر، وحسن وحسناء)، احتفظت بمختلف مكونات اللهجة الحضرمية المستخدمة في وسط وادي حضرموت. ففي حزاية (فاطمة وكعدة) مثلا، نقرأ "سارت فاطمة وحصّلت نخلة قالت لها : سقيني من ماش. فقالت لها فاطمة: عاد معي شوي ماء وبا أسقيش. وسقتها. فقالت لها النخلة: إن شاء الله شعرش با يكون كما سعفي في الطول. فطال شعر فاطمة وأصبح طويلا. وسارت فاطمة وبعد قليل لقيت شجرة عطب (قطن)، وقالت لها شجرة العطب سقيني فقالت لها فاطمة: عاد معي شوي ماء وبا أسقيش. وسقتها. فقالت لها الشجرة: إن شاء الله تكونين كما عطبي في البياض".

ويرتفع عدد المفردات والتراكيب العامية في الحزايا الموثقة من المصادر الشفوية مباشرة، كما هو الحال في حزاية (فاطمة في الشعاب هايمة)، التي احتفظنا فيها بجميع مكونات اللهجة الحضرمية. فقد جاء فيها مثلا: "قالت له الخالة: بحث لها قبر في الضيقة (مدخل الدار). فبحثه، وقالت الخالة: هذا قبر فاطمة من شان إذا نشد (سأل) عليها أبوها نقول له: فاطمة ماتت دفناها في الضيقة من شان الفضيحة اللي اقتها (فعلتها) فاطمة. أما فاطمة فتمّت تسير تسير لمان حصلت حصاة".

وبالمقابل اطلعت على حزايا حضرمية مكتوبة سعى محرروها لتخليصها من المفردات العامية، بل وبرزت فيها بعض مفردات اللغة العربية الفصحى الجزلة. ومن الواضح أن الموثق حاول أن يضفي عليها بعض اللمسات الفنية، مثلما هو الحال في حزاية (البنت التي أخذها العفريت)، التي تضمنتها مجموعة (الكشكول)، والتي تبدأ على النحو الآتي: "كان هناك دولة (سلطان) عنده بنت ذات جمال وأخلاق حسنة، وله أخ عنده ستة أولاد، كل واحد منهم يطلب من أبيه أن يكون هو زوج بنت عمه الدولة. والأولاد لم يكن بينهم حسد ولا حقد ، وكلهم متعلمون، وكل واحد منهم علمته مختلفة عن الآخرين. فكان الأول تعلمه في الفلك حتى صار فلكيا. والثاني في الفلسفة حتى صار فلسفيا، والثالث في النجارة حتى صار نجارا، والرابع في البحر حتى صار بحارا، والخامس في السرقة حتى صار سارقا، والسادس في العسكرة حتى صار عسكريا. وكل هؤلاء الستة يطلبون بنت العم. وكبرت البنت ولم يتعين لها زوج منهم. وفي ذات ليلة من الليالي أخذها عفريت من الجان وذهب بها.

والظاهرة نفسها نجدها في جميع النماذج التي ضمنها الباحث أحمد عمر مسجدي كتابه من الأدب الشعبي للطفل). فحزاية (الانتقام)، مثلا، تبدأ على النحو الآتي: "يحكى أن سلطانا يحكم بلاده وفي الوقت نفسه يعمل حطابا من حين لآخر، ومعه ابنته المسماة فاطمة. وبنته هذه تساعده في جلب الحطب من الوادي إضافة إلى ما تقوم به من أعمال البيت بعد أن ماتت أمها. وفي يوم من الأيام أخبر السلطان ابنته فاطمة أنه سيتزوج من امرأة أخرى لتعينها في العمل في البيت والوادي، لترتاح هي من ذلك.

وبالنسبة لي، عندما قمت بتوثيق بعض الحزايا من أفواه المسنين، حرصت على تدوين النص العامي كما هو، و كتبت المقابل الفصيح لبعض المفردات العامية، التي برزت في تلك النماذج، بين قوسين. (انظر مثلا حزاية الحبيب ابن العدوة في نهاية هذه المقالة).

ومن السمات البنيوية المميزة للحكاية الشعبية الحضرمية بدايتها ونهايتها، أي استهلالها وخاتمتها. ومن المعلوم أن كثيرا من الحكايات الشعبية العربية والأجنبية، تبدأ بعبارة (كان يا ما كان، في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان)، أو بالجزء الأول منها فقط. أما في الحزاية الحضرمية، فعادة ما تبدأ الراوية بعبارة "حاز با أحزي لكم ، كان ....". ويؤكد مسعود علي الغتنيني أن الحزايا المشقاصية "تبدأ بلفظة ( حزي من حزي عليك) أو (حزر من حزر عليك) في بعض المناطق، ويرد الطفل بقوله (حزي) في الأولى، و(حزر) في الثانية". 

وبالنسبة لنهاية معظم نماذج الحزايا الحضرمية التي أوردناها في هذا الكتاب فهي عادة الإشارة إلى السعادة والهناء اللذين بات يعيش فيهما الأبطال. وأذكر أن الوالدة والجارة خديجة كانتا تحرصان على إنهاء الحزاية بعبارة (وانقصعت). وفعل (قصع) يعني في لهجة وادي حضرموت اليوم: قطع أو أنهى أو اختصر. ويذكر مسعود علي الغتنيني في دراسته حول (المحازي في الأدب الشعبي المشقاصي) أن "المحازية تقول إذا بلغت نهاية الحزاية: قصت أي انتهت". وهكذا تنتهي اثنتان من المحازي التي ضمنها في دراسته. وسبق أن ذكرنا أن جميع الحزايا الحساوية التي ضمنها د. سمير الضامر في كتابه (احزاية…) تنتهي بعبارة (جملت وحملت).

نص حزاية ( الحبيب ود العدوة)

كان في حوطة سلطانة عجوز كبرت وتقدمت في السن. وكان معها ولد وبنت كبروا وعرسوا (تزوجوا). وكل واحد منهم خلف ولد. وكانت الجدة العجوز تفضل ابن بنتها على ابن ابنها وتخصه بودها ومحبتها، وتهتم بصحته وتمنحه الهدايا والأكل الزين، ولا تكترث أبدا بابن ابنها الذي يتفانى في خدمتها وحبها.

وذات يوم طلبت الجدة من أحفادها أن يرافقوها من حوطة سلطانة في الجانب الجنوبي من الوادي (وادي حضرموت إلى بور التي تقع في الجانب النجد (الشمالي) من الوادي). وعندما صاروا وسط المسيال (الوادي)، وصل سيل كبير من علوه في الشق القبلي. وعندما شاف ابن البنت قُدمة (مقدمة) السيل شل نفسه ورجع الحوطة وحده. وبحكم السن لم تقدر الجدة تخب (تجري)، وبدأ السيل يسحبها. لكن ابن ابنها ما خلاها ومسك بها وسحبها قليل قليل إلى جانب المسيال. وبعد صراع مع الماء قدر يصل هو وحبابته (جدته) إلى فوق المسيال، وبعدين رافقها إلى الدار. وشافوهم أهل الحوطة كلهم. واستحت العجوز من تصرف ابن بنتها اللي توده وتحبه، وقالت للناس:

الحبيب ود الحبيبة

ما معه للسيل طاقة

والحبيب ود العدوة

شلني من الماء بقوة.