ضيق الأفق السياسي.. عندما ترتهن القضايا الوطنية للأنانية والصدام

شإن أخطر ما نعيشه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ بلادنا هو تلك النظرة الضيقة للمشاريع السياسية التي يختزلها بعض الأنانيين في ذواتهم، فيجعلونها رهينة لمزاجهم الشخصي ورغباتهم الخاصة. وبدلًا من أن تكون هذه المشاريع أداة وطنية جامعة، تتحول بفعل العقلية الفردانية إلى أداة مغلقة لا تحمل إلا فكرة الصدام والاحتراب، فاقدة لجوهرها الحقيقي القائم على التعايش والتوافق.
إن هذا الوعي الإقصائي العدمي لا يكتفي بتشويه المشهد العام فحسب، بل يحاصر مشاريع الشراكة الوطنية ويعزلها عن حواضنها الاجتماعية التي كان يفترض أن تكون رافعة لها. إنه سلوك أحمق ينطلق من منطق ذاتي ضيق، لا يراعي مصلحة الوطن، ولا يدرك معادلات القوى الحقيقية في الميدان، ولا يستوعب متغيرات الواقع أو استحقاقات الشراكة الوطنية. إن من يتبنى هذا النهج يبقى أسير نزعاته الانفعالية النرجسية، بعيدًا عن عمق الفكر والتوازن المطلوب في إدارة الصراع وبناء المستقبل.
وما نراه اليوم في المشهد السياسي والاجتماعي لا يعدو أن يكون وضعًا مأساويًا قاتمًا، مرشحًا لزرع بذور جديدة للصدام بدلًا من مد جسور للتوافق والتعايش. الخطاب الشعبوي الذي يسود الساحة لا يقدم حلولًا، بل يعزز الانقسام، ويؤسس لمزيد من التوتر والعنف بين القوى المتصارعة. فالمعادلة لم تعد قائمة على رؤى وطنية أو مشاريع إصلاحية، بل على صراع أصوات وضجيج فارغ، يلهث خلف ذاته، ويدعي حمل قضايا كبرى فيما الواقع يكشف عجزه حتى عن إدراك أبسط معاني العدالة والحقوق الإنسانية.
إن ما نشهده عبث فوضوي تصنعه آلة من الضجيج وحقول جوفاء، لا ترى إلا نفسها. تدّعي أنها تمتلك مشاريع وطنية، بينما واقعها يفضح خواءها وضعفها وعجزها عن بناء حتى أبسط قواعد التعايش، أو إرساء دعائم لقضية عادلة تستحق أن تُحمل بروح جماعية ومسؤولية مشتركة.
ومن هنا، فإن الخروج من هذه الدائرة المغلقة يبدأ أولًا بالتحرر من سجن الذات والأنانية، والعودة إلى رحاب المشروع الوطني الجامع، الذي لا يقصي أحدًا، ولا يختزل القضية في فرد أو جماعة أو نزعة ضيقة. إن الوطن لا يُبنى على خطاب الصدام ولا على نزعات النرجسية، بل على التوافق، والشراكة، والإيمان بأن القضية الوطنية أكبر من أي فرد أو فئة.
فلنقلها بوضوح: كفى عبثًا، وكفى انغلاقًا، ولنخرج جميعًا من أسر الذات نحو أفق أوسع، رحب بالمسؤولية الوطنية، إذا كنا فعلًا نحمل قضية، ونبحث عن وطن يستحق الحياة.