المكتبات في الجنوب، مكتبة باذيب انموذجا
مسعود عمشوش
أولا- عن أهمية المكتبات:
المكتبات العامة والخاصة كانت وستظل البوابات الحقيقية للمعرفة والثقافة حتى في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي، فهي تقوم بدور أساسي في المجتمع، وتُسهم في تشكيل الأفكار والرؤى الجديدة التي تُشكل الوعي المجتمعي الإبداعي. كما تُسهم في ضمان توثيق دقيق لمختلف مكونات الموروث والمعرفة، المخطوطة باليد أو المكتوبة بالمطبعة، التي أنتجتها وراكمتها الأجيال السابقة في مختلف اللغات. ففي عالم بلا مكتبات، سيكون من الصعب تطوير البحث والمعرفة الإنسانية أو الحفاظ على المعرفة والتراث العالمي ونقله للأجيال القادمة.
والمكتبات مستودعات غنية بالكتب والمجلات والصحف ذات الأهمية العلمية والتاريخية والثقافية، وكثير منها غير متوفر في أي مكان آخر في العالم. لذا للمكتبات دور مهم في حفظ التراث الثقافي لأي أمة وتعميمه ونقل للآخرين. فالمهاتما غاندي، إدراكًا منه للأهمية الثقافية للمشاركة، أكد أنه "لا يمكن لأي ثقافة أن تحيا إذا حاولت أن تظل منغلقة على نفسها وحصرية".
كما تعدّ المكتبات مرادفةً للتعليم، إذ إنها تُتيح فرصًا تعليميةً لا تُحصى وتُسهم في توصيل المعارف والمهارات وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالموارد والخدمات التي تقدمها تُهيئ فرصًا للتعلم والتعليم، وتدعم محو الأمية.
ولأهمية المكتبات قمنا سنة ٢٠٢٣ بتضمين العدد ٢١ من مجلة (فنار عدن الثقافية) ملفا شاملا عن المكتبات في الجنوب، ضمنا تقديمات تفصيلية لكل من مكتبة المخطوطات في تريم، و المكتبة السلطانية في المكلا، والمكتبات في لحج وعدن وحضرموت وفي جامعة عدن مركز عدن للدراسات التاريخية والنشر. ونقدم هنا ملخصا لما كتبناه عن مكتبة باذيب (المكتبة الوطنية)، التي تجسد الحالة التي وصلت إليها الإهمال الكبير التي تتعرض له الثقافة في الجنوب من تدمير متعمد وممنهج.
ثانيا-مكتبة باذيب:
افتتحت مكتبة الفقيد عبد الله عبد الرزاق باذيب (المكتبة الوطنية) رسمياً في ١٤ أكتوبر سنة ۱۹۸۰، وكان مبناها وأثاثها وأجهزتها هدية من دولة الكويت. لكن جزءا كبيرا من الكتب والدوريات والوثائق المختلفة والمهمة التي تحتويها هذه المكتبة العامة، كانت تضمها مكتبة مسواط العامة التي تأسست سنة ١٩٥٣ باسم الضابط البريطاني ليك. لهذا يمكن اعتبار مكتبة باذيب الوطنية امتدادا لأول مكتبة عامة في عدن.
وقد أصبحت المكتبة مؤسسة حكومية مستقلة، بعد أن تم فصلها عن المركز اليمني للأبحاث والثقافة والآثار والمتاحف سنة ۱۹۸۳م، وظلت تحتفظ بأهم المراجع والوثائق والدوريات المرتبطة بمختلف الجوانب التاريخية والثقافية والإعلامية، في الجنوب باللغتين العربية والإنجليزية.
وإضافةً إلى القسم العام وقاعات القراءة، تضم المكتبة قاعات لتنظيم المعارض الفنية ومعارض الكتب، إلى جانب قاعة للفقيد لطفي أمان، وأخرى للكتب القانونية. وتضم المكتبة قسما كبيرا خاصا بالمراجع باللغات الأجنبية، وقسما للميكروفيلم، وقسما لكتب الأطفال وقسما مهما للدوريات، كما يحتفظ قسم بنسخ من جميع الصحف التي صدرت في عدن باللغتين العربية والإنجليزية منذ سنة ١٩٤٠. ولا يزال هذا القسم يحتفظ بالعدد الأول لصحيفة فتاة الجزيرة الصادرة في عدن عام ١٩٤٠، والصحف والنشرات التي صدرت عن وزارات الثقافة ومؤسستي الإذاعة والتلفزيون منذ حكومة اتحاد الجنوب العربي في مطلع ستينيات القرن الماضي، لكن للأسف، الجزء الأكبر من تلك الصحف والنشرات أصبح غير قابل للتداول، كما فقدت خلال حرب ١٩٩٤ أفلام الميكروفيلم التي تم توثيق جزء من تلك الدوريات فيها. ولا تزال إدارة المكتبة تبحث عن تمويل لإعادة تصوير تلك الصحف والوثائق التي تعد مراجع مهمة يحتاج إليها الكثير من الباحثين في تاريخ بلادنا. فمن المعلوم أن مكتبة باذيب تستقطب عددا كبيرا من الباحثين من مختلف محافظات البلاد ومن الخارج.
وهناك بالمكتبة إدارة خاصة بالإعارة؛ عن طريق بطاقة عضوية ينالها المشترك في المكتبة يحصل عليها بيسر وبدون مقابل، ويمكنه بها استعارة الكتب خلال فترة زمنية محددة.
وللأسف، منذ حرب ١٩٩٤ تعرضت مكتبة باذيب لكثير من الإهمال. وتعد المكتبة مؤسسة مستقلة ماليا وإداريا وتحظى برعاية محافظي عدن، فقد تم وضعها في الهيئة العامة للكتاب بعدن، التي لا تخضع لإشراف محافظة عدن ولا لأي شخص له علاقة بعدن، وتم تقليص ميزانية تسيير أعمال المكتبة، التي لا تتجاوز اليوم ٥٠ ألف ريال، وهو ما جعلها في حالة صعبة للغاية.
وقد تحدث مدير عام المكتبة عبد العزيز بن بريك عن تلك الصعوبات التي تواجهها المكتبة قائلا : "هناك صعوبات نواجهها ، لكن لا صوت لمن تنادي، حيث سبق أن زار المكتبة خمسة وزراء ولم يفعلوا شيئا، فميزانيتها لا تكفي حتى لشراء أدوات تنظيف ليومين. لكن مع ذلك فإن أنشطتنا المستمرة هي التي تمنح هذه المؤسسة الثقافية ديمومتها. كما تشكو من أن الاعتمادات الحالية لبنود المطبوعات والكتب ضئيلة جدا تقدر بعشرة دولارات شهريا، كما تعاني المكتبة إلى جانب أنشطتها المختلفة من عدم اهتمام الهيئة العامة للكتاب بمتابعة ما ينقصها من إمكانيات وتحديثات تنهض بها المكتبة؛ لأداء رسالتها المعرفية، على الرغم من أن ميزانية المكتبة الوطنية عند تأسيس الهيئة العامة للكتاب ارتكزت عليها الهيئة باعتبار أن المكتبة الوطنية بعدن كانت محور ارتكاز عمل الهيئة عند التأسيس وحتى الآن".
وأضاف بن بريك "ومع ذلك، نعمل في المكتبة الوطنية على الاهتمام بكل الفئات المستهدفة من أطفال وطلاب مدارس وجامعات وباحثين، وخلق مناخ من خلاله يتم ربط الفئات المستهدفة بالمكتبة عبر عدة طرق؛ منها القراءة الداخلية، وعملية إعارة الكتاب وتوثيق البحوث والرسائل العلمية، وإقامة الأنشطة الثقافية والعلمية، وفتح مجال أوسع لأنشطة المنظمات الشبابية المختلفة في المدينة؛ وذلك عبر إقامة الندوات والدورات التدريبية حول المهارات المتعددة للشباب، وكذا الدورات التعليمية".
ويناشد العاملون والعاملات في المكتبة، من جانبهم، جميع الجهات المعنية في الحكومة بالاهتمام بالمكتبة العريقة، ورفدها بالميزانية اللازمة لتسيير عملها ورفدها بالمعدات اللازمة لاستقبال القراء والباحثين، وكذلك بكافة الكتب الحديثة ورقيا ورقميا، التي تطبع في دور الكتب، وبعدد من الحواسيب اللازمة لتستطيع المكتبة مواكبة متطلبات العصر، وتعود كما كانت عليه في السابق: فنارا ثقافيا منيرا في عدن والبلاد كافة.
وفيما يأتي التقرير الذي تقدمه الأخ عبد العزيز بن بريك، مدير المكتبة للجهات المعنية سنة 2024.
"تعد المكتبة الوطنية أحد الروافد الثقافية في مدينة عدن من حيث أهميتها ورسالتها المناط بها في خدمة جمهور الباحثين والأكاديميين وطلاب الجامعات والأساتذة والقراء جميعا، وهذه المهمة الكبيرة والواسعة على عاتق المكتبة وجمهورها الداخلي تتطلب العديد من الإمكانات التي تنفذها حالياً خاصة بعد حرب عام 2015م التي شنتها مليشيات الحوثي على عدن. هذه الأحداث كانت عائقاً نحو تقدم المكتبة وخدمتها للجمهور وكذا عرقلة وإحباط العديد من المهام المرسومة لنا.
وكما تعرفون فإن المكتبة تعرضت للنهب والتخريب من قبل البلاطجة الذين استغلوا ظروف الحرب وغياب المؤسسات الأمنية وقاموا بنهب موجودات المكتبة من كتب وأجهزة وأدوات وتخريب مبنى المكتبة. هذا الأمر ومن خلاله سعينا بمجهوداتنا من التواصل مع الجهات المختصة في محافظة عدن وكذا بعض الشخصيات الاجتماعية والأكاديمية من خلال قيامنا بشرح وضع المكتبة الوطنية وتكللت هذه الجهود وعمليات التواصل من قيام الهلال الأحمر الإماراتي بموافقته على إعادة تأهيل مبنى المكتبة الذي لحق بها الدمار والتخريب في الوقت الذي كان بعض البلاطجة داخل المكتبة ورفضهم الخروج من المبنى بحجج مطالبتهم بمبالغ ووظائف هذا الأمر جعلنا في حيرة امام البدء في الترميم وتسليم المكتبة للمقاول للبدء بالعمل. وبعد مماطلة واللجوء إلى المقاومة لإخراج المقتحمين وتسليما المكتبة وقيام المقاول بالعمل حتى الانتهاء من عمله واستلمنا المكتبة بوضعها الجديد دون الأجهزة والأثاث بعد اعادة تأهيلها من قبل الهلال الأحمر الاماراتي ولم يمض عاماً حتى تم تفجير المكتبة بعبوة ناسفة وتحطيم واجهتها وداخلها واستشهاد استاذ جامعي وطالبة جامعية بالقرب من المبنى وكذا اصابة وجرح حارس المكتبة بإصابات بالغة يعاني منها حتى اليوم.
وفي الوقت الذي كنا بانتظار بعض التجهيزات من كراسي وأجهزة ومكيفات لكي نقوم بإعادة افتتاح المكتبة فقد قامت قيادة المحافظة في عدن من ترميم بعض أجزاء المكتبة الأمامية والداخلية وتنظيف الاقسام حتى قامت احداث 2018م في كريتر ولحقت بالمكتبة وما تم ترميم من هدم وتكسير من الخارج والداخل وتعطيل المكيفات والأجهزة والكراسي والمناضد في القاعات حيث ظلت المكتبة مغلقة حتى يومنا هذا القيام بخدمة الباحثين من خلال ادارة الايداع القانوني الذي يمنح ارقام ايداع تسهيلاً لخدمة المؤلفين والباحثين بالرغم من عدم جاهزية المكتبة.
إجمالاً وحتى تستكمل التجهيزات كافة لإعادة افتتاح المكتبة فإننا بحاجة إلى:
١- التواصل من قبلكم مع الجهات المختصة والمنظمات الاغاثية بسرعة اعادة تأهيل المكتبة
2- تزويدنا بالكتب والإصدارات العربية والمحلية حتى نعزز دور القراءة
3- رفع الميزانية التشغيلية للمكتبة من مبلغ ثلاثين الف ريال يمني والذي لا يكفي حتى أدوات النظافة حيث أن المكتبة بمبناها المكون من اربعة ادوار ووجود بعض المكيفات التي بحاجة إلى صيانة دورية لإطالة عمرها .
4- حتى الأن لم نستلم في المكتبة وفرع الهيئة العامة للكتاب التسويات التي منحت لجميع العاملين في المؤسسات والمرافق الحكومية من العام 2011م.
5- التوجيه لصندوق التراث الثقافي بصرف مخصصات المكتبة والتي لم نستلم من الصندوق منذ العام 2015م وحتى الأن . باعتبار أن لنا الأحقية في الصرف باعتبارنا مؤسسة ثقافية وخدمية.
6- ضرورة تخصيص مبلغ لشراء الدوريات والكتب والإصدارات الجديدة لمواكبة الجديد في عالم النشر والإصدار خدمة للقراء والباحثين.
7 - افتقارنا لأجهزة الكمبيوتر لتفعيل قاعة الأسرة المخصصة للنساء والتي نهبت محتوياتها أثناء الحرب والعمل على اعادة احياءها
8 - تزويدنا بمولد كهربائي كبير لمواجهة انقطاعات الكهرباء المتكررة خدمة للقراء
9- ضرورة ادخال شبكة انترنت عدن (نت) وتوجيه مؤسسات الاتصالات لإدخالها في المكتبة لمواكبة عالم الاتصال والمعلومات .
ونتمنى أن يكفي ما قدمناه هنا لإعطاء صورة عن وضعنا الحالي والصعوبات التي تواجه المكتبة.
عبد العزيز بن بريك مدير عام المكتبة الوطنية
ثالثا- ومن المكتبات التي ظهرت في عدن منذ نحو عشرين عاما مكتبة مركز عدن للدراسات التاريخية التي تأسست سنة 2010. وكانت حينها مرفقة بمكتب دار الوفاق للدراسات والنشر، ومعظم ما فيها من كتب هي في الأصل مكتبة الشيخ محمد سالم بن علي جابر (المشرف العام على دار الوفاق ومركز عدن للدراسات التاريخية)، أرسلها من مدينة الرياض، ثم جرى تطويرها لاحقًا بشراء عدد من المصادر والمراجع التاريخية. وعند تأسيس مركز عدن للدراسات التاريخية سنة 2017م ضُمّت هذه المكتبة للمركز.
ووفق ما كتب د. نادر سعد حلبوب العُمري، مدير دائرة التوثيق في مركز عدن للدراسات التاريخية، مشرف المكتبة، تقع المكتبة في حُجْرة مساحتها (7×4) أمتار تقريبًا، وتغطي الكتب جدران الحُجْرة الأربعة بارتفاع مترين تقريبًا، وتضم أكثر من ألفي عنوان، في التاريخ، والأدب، واللغة العربية، وعلوم الشريعة، والقانون، وغير ذلك. وتضم المكتبة أرشيفًا وثائقيًّا يضم مجموعة من الوثائق الورقية الأصلية والمصورة، وما زال هذا القسم قيد التطوير. وللمكتبة أرشيف رقمي كبير، يضم آلاف الكتب (الإليكترونية) في التاريخ العربي والعالمي، وفي بعض العلوم الإنسانية الأخرى، فضلًا عن الكتب المتخصصة في تاريخ اليمن وحضرموت وبقية جنوب الجزيرة العربية. ويجري حاليًّا إعداد أرشيف رقمي يضم الصحف الصادرة في عدن وحضرموت قبل الاستقلال وبعده. وقد أنتهت المكتبة مؤخرا برقمنة عدد من الصحف والمجلات التي في بلادنا قبل الاستقلال، ورفعتها في شبكة الانترنت ليتمكن الباحثون من الاستفادة منها.