هل يسخر ابن صالح من ذاكرة الجنوبيين؟
د. حسين لقور بن عيدان
خرج علينا أحد أبناء رأس النظام السابق علي صالح ليحدثنا عن الثورة في الجنوب ومشروع الوحدة، وهو بذلك ـ كالعادة ـ يُشعر شعب الجنوب بالقرف والغثيان، ليستفز التاريخ من جديد، كأن من صادروا الوطن الجنوبي بالأمس يريدون اليوم إلقاء الدروس في الوطنية لشعب الجنوب.
إنها نكتة التاريخ حين يصبح الوريث السياسي لمرحلة النهب هو نفسه الخطيب الرسمي في مناسبةٍ جنوبية. في تصريح له بالأمس بمناسبة الذكرى الثانية والستين ليوم 14 أكتوبر، شطح أحمد علي عبدالله صالح وأخذ يتحدث بنبرة الباحث عن الحرية والكرامة والسيادة، وكأن والده لم يكن رأس النظام الذي دهس هذه القيم جميعًا باسم مشروع الوحدة، ولم يكن هو إحدى أدواته.
من الواضح أن الرجل لم يعرف عن الجنوب إلا عبر الروايات الرسمية، ولا عن مشروع الوحدة إلا بوصفه امتيازًا عائليًا يُورَّث من حقل نفط إلى آخر، تُتداول ملكيته بين عصابات الحاشية.
من المدهش أن يتحدث نجل صالح عن الكرامة الوطنية والحقوق، وهو الذي قضى سنوات شبابه متنقلًا بين العواصم بأموال الشعب، ولقد أسقط الجنوبيون نظام والده قبل أن يسقط في صنعاء. ففي حراكهم السلمي عام 2007 ونضالهم المدني، قالوا كلمتهم: لا لوصاية صنعاء، ولا لتهميش الجنوب، ولا لنهب ثرواته باسم مشروع الوحدة. فكانوا أول من دقّ المسمار الأول في نعش النظام الذي كان يربط الوطنية بالولاء لوالده، لا للوطن ذاته.
اليوم، عندما يذكر أحمد علي مدن الجنوب: ردفان، وعدن، والضالع، وأبين، فإن ذاكرة الجنوبيين تستدعي مشاهد جنود الحرس الجمهوري الذي كان يقوده، والدبابات التي أرسلها والده لقمعهم وسفك دمائهم. فأي مفارقة أن يتحدث ابن رأس النظام الذي حوّل الدولة إلى شركة عائلية عن مصيرٍ مشترك!
ذلك المصير المشترك في قاموس النظام العفاشي كان يعني التبعية لا الشراكة، والنهب لا العدالة، والسيطرة لا احترام الاختلاف. لقد كان الجنوب بالنسبة لذلك النظام غنيمة حرب تُدار بثقافة المنتصر. نُهبت الثروات الجنوبية، وسُرّحت الكفاءات من أبناء الجنوب، وحُوّلت مؤسسات الدولة إلى أطلالٍ تُعرض في متحف الذاكرة الجنوبية المريرة.
اليوم يحاول الابن نفض الغبار عن إرث أبيه الكارثي بخطابٍ مصقول ومحسّناتٍ لفظية، وكأن التمثيل الكوميدي البائس يمكن أن يرمم ذاكرة شعب الجنوب.
لا شك أن الجنوبيين يحترمون ذكرى 14 أكتوبر مهما كان الخلاف حولها، ويجلّون نضال شعبهم، لكنهم يعرفون تمامًا أن وطنهم لا يُستعاد عبر أبناء الطغاة، وأن الحقوق لا تُوهب من ورثة من سفك دماءهم، ولا تُرسم خططها في خطاباته.
الجنوب اليوم أكثر وعيًا من أن يُخدع بكلمات هزيلة من أبناء الأمس، وأكثر صلابةً من أن يسمح بإعادة تكرار يمننته من جديد تحت عناوين جديدة.
إن التاريخ، في نهاية الأمر، لا يعيد نفسه إلا إذا تجاهل الناس دروسه. والجنوبيون لا ينسون، وهم مدركون أنهم ليسوا من اليمن، ولا اليمن منهم. فهم من صنعوا الثورة الجنوبية للخلاص من مشروع الوحدة وآثار اليمننة، وهم من دفعوا ثمنها، وهم من قرروا أن لا يكون لعائلة علي صالح موطئُ قدم حتى في الذاكرة التي حفظت كل شيء حتى السخرية ذاتها.